24‏/05‏/2019

صالح مطروح وشعراؤه الشعبيون في مدينة شاعرة







"قراءة في الجزء الأول من موسوعة صالح مطروح السعيدي عن الشعر الشعبي في مدينة الحي"




ليسو كثيرين أولئك الذين يحبون الشعر الشعبي أو يستسيغونه، حتى مع وجود من يعتبره عملا أدبيا متطفلا هجينا، يحاول أن يسرق ألق العربية ويعريها من تألقها، بل ويسيء إليها، وهو احد اشد المخاطر التي تتهدد الفصحى، ويدعا هؤلاء إلى محاربته ونبذه، والكف عن ممارسته، ومنع انتشاره بكل الطرق المتاحة والممكنة.
لكن لا ينكر أن الشعر الشعبي بكل ألوانه المعروفة سواء كان دارمي أو أبوذية أو موال أو قصيدة يعد من مواريثنا الشعبية التراثية الأدبية التي أخذت مساحة كبيرة في مجمل حراكنا الثقافي، وتركت أثرا لا يمكن محوه في سفر تاريخنا وحياتنا، ربما من خلال الصور المدهشة التي يرسمها، والتي رقت علوا حتى عجز الشعر المقفى أحيانا عن اللحاق بجمالها، ولاسيما وان اللهجة العامية تملك قدرة تطويع المفردة لتأخذ أشكالا لا وجود لها في الفصحى التي تحكمها القوانين النحوية واللغوية بما لا يسمح بالتلاعب إلا ضمن الحدود المعروفة والمسموح بها، لدرجة أن الإقواء مستهجن بالرغم من تجويزه للشعراء.
ونحن لو عدنا إلى المائة سنة الماضية وتقصينا الحراك الأدبي فيها؛ نجد أن القصيدة الشعبية كانت قد تسيدت ساحة الغناء وكل المناسبات الدينية والاجتماعية حتى تلك الحزينة والمأساوية منها، لدرجة أن الناس ما كانت تستسيغ سماع الغناء أو الرثاء باللغة الفصحى، وكانت تعزف عن سماع ما يطرح منه، باستثناء الطبقة المثقفة وبعض المهتمين.
وقد فرض الشعر الشعبي نفسه نظرا لوجود تطابق بين ألوانه والمعاناة التي عاشها الإنسان العراقي المسحوق الفقير المثقل بالمآسي والمشاكل، والمنهك بسبب الفقر والفاقة، بعد أن وجد في هذا النوع من الأدب متنفسا وترجمة لشعوره. وذلك لأن الشعراء الشعبيين، والمتخصصون الآخرون في دراسة هذا النوع من الأدب يرون أن الشعر سواء كان باللغة الفصحى أو اللغة العامية(المحكية) إنما هو تفسير لنزعات الشاعر الحسية والنفسية في لحظات الإبداع والتوهج، أو لحظات القنوط والتأوه، وبالتالي هو تعبير حسي عن حالة مجتمعية يعجز البسطاء عن تصويرها فيلجؤون إلى ما قيل فيها من شعر ليرددوه تعبيرا عن حالتهم. ولما كان الشعر أقرب إليهم وفي متناول أيديهم، لجأوا إليه ورددوا من خلاله أمثالهم وحكمهم ونصائحهم وحكمهم.
ومع ذلك كان الشعر الشعبي ولا زال يواجه اعتراضا شديدا يصل أحيانا إلى حد الممانعة، بالرغم من انه مثل الشعر الفصيح المقفى يعتمد الوزن والقافية ويمتاز بالإيجاز والتركيز وقوة المعنى واللون والغرض، فضلا عن ذلك تقال القصيدة الشعبية في الفرح والحزن والضيق والسفر والنخوة والشيمة والعشق والتعفف، ويكاد يدخل إلى كل أغراض الشعر الفصيح، وربما تغلب عليه في أغراض أخرى لا تجدها في الفصيح مثل الدارمي، وشابهه في أغراض أخرى مثل قصائد الركبان والوجدانيات.
وفي حقبة الاستعمار الانكليزي كانت القصيدة الشعبية المجاهدة تؤدي نفس غرض القصيدة المقفاة، وتتناول نفس المعنى والهدف، وكما خلد التاريخ قصائد الحماسة الفصحى، خلد الكثير من القصائد الحماسية الشعبية التي لا زال بعضها يتردد على الألسن إلى الآن.
إن انكفاء اللغة الفصحى وتفشي الأمية والفقر والجهل وكثرة المآسي التي مرت على الإنسان العراقي، فضلا عن تداعيات دخول الأعاجم إلى حياتنا، سواء كانوا عبيدا وموالي وإماء وسراري أو تجارا أو علماء تحتاجهم الدولة فتستدعيهم من البلدان الأخرى، أو متعلمون وطلبة علم من أهل البلدان غير العربية التي اعتنقت الإسلام، وباتت تبحث عن علومه وتعاليمه في مهده؛ واختلاط هؤلاء بالعامة والخاصة، ومن ثم عجزهم عن لفظ بعض أحرف العربية كالضاد والعين والقاف، مما جعلهم ينحتون كلمات أخرى تستسيغها ألسنهم، ويسهل عليهم لفظها، أدى كل ذلك إلى ولادة مفردات عربية هجينة كانت من الكثرة لدرجة أنها طغت على مفردات الفصحى التي باتت رسمية أكثر منها شعبية، وحتى هذا المركز فقدته في زمن حكم العثمانيين، وكان ذلك قد حدث في وقت متقدم من تاريخنا لم يتجاوز القرن الثاني أو بدايات القرن الثالث الهجري حيث فشت بعض الكلمات التي نحتها الغرباء فضلا عن كلمات أعجمية كثيرة أخرى؛ بعد أن استسهلها الناس فرددوها، لتطغى فيما بعد وتنتشر وتتحول إلى لهجة دارجة يستخدمها أغلب المجتمع في القرنين الثالث والرابع، لدرجة أنها دخلت ضمن مفردات الكتاب والمؤلفين في تلك الحقبة. وأي لهجة تصل إلى هذا المستوى من الذيوع والانتشار لابد وان يظهر بين مستخدميها من يكتب فيها، سواء كتب الشعر أو النثر، وقد ضمر النثر غالبا لسهولة حفظ الشعر وترديده من قبل الناس البسطاء. وهذا أسهم من جانبه في غلبة العامية على الفصحى في التداول اليومي.
وقد استغل الأديب والروائي الواسطي صالح مطروح السعيدي هذه الخاصية للإفادة منها في توثيق الدور الذي لعبه الشعر الشعبي في الحياة العامة لإحدى مدن العراق، وهي المدينة التي ولد فيها، لكي لا ننسى أدب حقبة من حقب تاريخنا القريب.
ميزة سفر صالح مطروح الموسوم "شعر وشعراء من الحي" أنه بحث تاريخي توثيقي أختص بمدينة واحدة من مدن واسط هي (الحي) التي تفردت عن مدن المحافظة الأخرى بوجود أعداد كبيرة من الشعراء الشعبيين؛ الذين تناولوا كافة أغراض الشعر الشعبي في قصائدهم وأجادوا لدرجة أن دارمياتهم وأبوذياتهم وقصائدهم علقت بالذاكرة الجمعية الشعبية في كل المحافظة عبر الأجيال، وتحول بعضها إلى أمثال يتداولها الناس إلى الآن.
لجأ صالح مطروح إلى التوسع بغرض بناء قاعدة بحثية سليمة؛ ابتداء من قيامه بتقسيم مناطق الشعر في العراق، وتعريف كل مفردة وكل تسمية من التسميات المنتشرة التي يعرف الناس مضمونها ولا يعرفون معناها وتاريخها وسبب تسميتها، فهو حينما يورد اسم (الحسجة) مثلا يقف عندها، ليقول: "الحسجة كلمة مأخوذة من الحسك وهو نبات متقرن يكثر في مناطق زراعة الشلب"(1) وينسبها إلى الديوانية التي هي من أغزر وأجود مناطق إنتاج الشلب في العراق، لتكون المنطقة الأولى في تقسيمه لمناطق تسيد الشعر الشعبي الرئيسية، تلتها مناطق الجنوب: ذي قار والبصرة، ومنطقة الجنوب الشرقي: ميسان وواسط، ومنطقة الوسط: بغداد وديالى، ومنطقة الفرات الأوسط، ومناطق الشمال والغرب.
ثم يعرج على كل منطقة منها ليصف شعرها، فيقول عن منطقة الجنوب مثلا: "ويلاحظ على هذا الشعر اقترابه من لهجة المدن وهو شعر مطواع"(2) ويقول عن منطقة الجنوب الشرقي: "يمتاز شعر هذه المنطقة بالمتانة والرصانة والديباجة وجزالة اللفظ ونقاء مفرداته"(3) ويصف شعر منطقة الوسط بأنه: "شعر رصين رائع يقف على ارض صلبة"(4) أما منطقة الفرات الأوسط فيصف شعرها بأنه: "يمتاز بتمازج لهجة المدن مع لهجة الريف، ولذلك نراه رقيق اللفظ قوي المعنى بليغ التأثير"(5)
بعدها أختص صالح مطروح مدينته (الحي) ليتحدث عنها، فعدد ألوان الشعر الشعبي الحياوي، ذاكرا: القصيدة الحسينية، الوجدانية، الابوذية، المربع، البسته، الموال، جلمة ونص، القصيدة النصارية، الميمر، الدارمي، الملمع. فضلا عن ذلك لم يأل صالح مطروح جهدا في تعريف ألوان الشعر المختلفة، وسبب تسميتها وأوزانها، مثل: الموال أو الزهيري الذي يقول عنه: إنه سمي بهذا الاسم نسبة إلى ملا جادر الزهيري البغدادي. والنايل الذي يقول عنه: إنه من وزن الموال وهو لا يتقبل اللحن والزحاف مثل الموال. ولقد أبدع صالح مطروح لأنه مع كل تعريف للون من ألوان الشعر كان يأتي بنص أو أكثر لتوضيح المعنى، ولا يكتفي بذلك بل ينسب النص إلى قائله، فضلا عن تسمية الشعراء الذين برزوا وأجادوا في نظم لون محدد من ألوان الشعر الشعبي.
إن الحديث عن ألوان الشعر الشعبي مع إيراد النصوص الكثيرة كأمثلة، فضلا عن الشروح والإشارات التي تحتاجها النصوص لا يمكن أن يختزل الحديث ضمن مجلد واحد، وقد أدرك صالح مطروح هذه الجنبة، وعظم هذه المهمة، لذا قرر أن يكتب موسوعة عن شعر وشعراء الحي التي يسميها في أكثر من مكان من كتابه "مدينة شاعرة" لكي يغطي كافة مدخلات ومخرجات الموضوع الشائك الذي اختاره. وضمن الخطة التي رسمها، قرر أن تكون هذه الموسوعة في أربعة أجزاء، كان موضوع الجزء الأول: الدارمي، والجزء الثاني: الابوذية، والجزء الثالث: القصيدة، والجزء الرابع: الموال. وقد خصص الجزء الأول منها، وهو الكتاب الذي بين أيدينا الآن للحديث عن الدارمي، ونأمل أن تتاح الفرصة للأديب الكبير صالح مطروح ليتم هذا المشروع الكبير الذي سيتحول بالتأكيد إلى واحد من أهم مصادر دراسة الشعر الشعبي بشكل عام، ودراسة الشعر والشعراء الشعبيين في الحي بشكل خاص. وكم أتمنى لو اهتمت الحكومة والمنظمات والحكومات المحلية وخصصت مبالغ لطبع هذه السلسلة الفريدة لتبقى أنموذجا تراثيا للأدب الشعبي الذي كان متداولا في العراق
إن هذا العمل ـ مثلما يبدو من جزئه ـ الأول يحتاج إلى جهد مؤسساتي كبير، بينما تثبت كل الوقائع ان الأديب صالح مطروح أتمه لوحده، دون مساعدة من احد، وهذا يبين مقدار الجهد الكبير الذي بذله في إتمام أولى فقرات هذا المشروع الرائد.
ابتدأ مطروح هذا الجزء بتعريف الدارمي فأورد اغلب الآراء المتداولة، بعدها عدد أشكال الدارمي؛ التي حصرها باثني عشر، مبتدئً بالغزل ومنتهيا بالمراسلات والمساجلات والأغراض الأخرى، ليقوم بعدها بالحديث عن كل غرض منها، ابتداءً بالحديث عن دارمي الغزل، ثم دارمي الدار، فالحادي، فالعتب، وموردا الكثير من النصوص، وهكذا الحال مع باقي أغراض الدارمي الأخرى.
ووفاء منه لصدق المنهج، أورد في نهاية الجزء قائمتين الأولى بأسماء الشعراء الضيوف وعددهم اثنا عشر، وهم الشعراء من غير أهل الحي الذين ورد ذكرهم في الكتاب، والثانية بأسماء شعراء الحي، وقد تضمنت أسماء سبعة وتسعين شاعرا حياويا
صدر الجزء الأول بعنوان "شعر وشعراء من الحي" عن دار ومكتبة عدنان في بغداد بداية عام 2014 ليكون إحدى أهم وثائق دراسة الشعر الشعبي العراقي، وكلنا أمل أن تقدم المؤسسات البحثية والمنظمات والجمعيات المهتمة بهذا النوع من الأدب بمد يد الدعم والمساعدة للأديب صالح مطروح ليتم هذا المشروع الكبير والمهم جدا. ونحن بعد أن أمتعنا الجزء الأول من الموسوعة أثناء رحلتنا معه، سنبقى نرقب بشوق صدور باقي الأجزاء لتتم متعتنا.

...................
هوامش
(1) الصفحة12
(2) الصفحة 13
(3) الصفحة12ـ13
(4) الصفحة 14

(5) الصفحة 14