تتحدث معاجم اللغة عن عاشوراء على أنه اليوم
العاشر من شهر محرم الحرام, هكذا دون تخصيص، أو هو نوعٌ من الحلوى
يُتخذ من مقشور القمح، وقد يضاف إِليه اللبن والزبيب والنقل. هكذا باختصار، حولوا المناسبة
إلى قدر حلوى. ونادرا ما ذكر بعضهم مقتل الحسين، وإن ذكروه، فإنهم إما أن يدَّعون
أنه اليوم التاسع من المحرم وليس العاشر! ليبعدوه عن يوم استشهاد الحسين في العاشر
من المحرم، أو يقرنون ذكره مع خبر تاريخي حتى ولو كان من خارج منظومة الإسلام،
فيقولون مثلا: "هو اليوم الذي قتل به الحسين ابن علي. ويقال: إنه اليوم الذي أغرق
الله تعالى فيه فرعون وجنوده". وقال القاضي عياض عن معناه: "عاشوراء اسم
إسلامي لا يُعرف في الجاهلية، لأنه ليس في كلامهم فاعولاء. ومعنى عاشوراء أي اليوم
العاشر من المحرم".
وهناك من ادعى
أن النبي وضع تشريعا لصيام هذا اليوم، والسبب الرئيس وراء تشريع صيام يوم عاشوراء
ـ مثلما يدعون ـ هو أن الله سبحانه وتعالى نجى فيه النبي موسى وقومه من بطش فرعون،
استنادا إلى حديث منسوب إلى ابن عباس، قال: "قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم
يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من
عدوهم، فصامه موسى شكراً، فقال رسول الله: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه".
وفي صحيح مسلم: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيدا، ويُلبسون نساءهم
فيه حُليهم وشارتهم، فقال رسول الله: فصوموه أنتم". وقال بعضهم: كان اليهود يصومونه
في الجاهلية. وقد أراد النبي (ص) صومه، لكنه لم يحب أن يتشبه باليهود، فقال:
"لئن سلمت إلى قابل أصومن اليوم التاسع"، وروي عن ابن عباس أنه قال:
"صوموا التاسع والعاشر من شهر محرم".
هذه صورة
تكتنفها الكثير من الضبابية لأنها تُظهر النبي وكأنه كان هو من يضع تشريعات
العبادات، ولا ينتظر الوحي في ذلك، حتى مع علمهم أن العبادات توقيفية، ولا تشرع عبادة
من العبادات إلا بدليل شرعي يدل على ذلك، قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
(المائدة:3) فما لم يشرعه الله تعالى فليس من الدين.
ولكن سرعان ما
يتهاوى السبب الذي أباح لهم صيام عيد فرح اليهود أمام حديث عائشة التي نسبت سبب
الصوم إلى الجاهلية لا إلى يهود خيبر كما في قولها: "كان يوم عاشوراء يوما تصومه
قريش في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه(أي يصومه معهم في الجاهلية وربما بعد
البعثة)، فلما قدم المدينة صامه، وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان، قال: من شاء صامه،
ومن شاء تركه". وهنا يتضح أن صيامه جاء إحياء لسنن اليهود والنصارى أو لإحدى
سنن الجاهلية التي تبدو قريبة الشبه بقصة (الغرانيق) ولا علاقة له بالعبادات
الإسلامية!.
وفقا لهذه
الرؤية، جعلوا صيام يوم عاشوراء سُنَّة، ولكنهم اختلفوا فيما إذا ما كان واجبا أم مستحبا،
فقال بعضهم: "وفي الحديث عن النبي: صوم يوم عاشوراء كفارة سنة". وقال آخرون: "من
المستحب أن يصوم المسلم اليوم التاسع مع اليوم العاشر من محرم، وذلك لما ثبت في الحديث
عن ابن عباس: لما صام رسول الله يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه
يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال: إذا كان عام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع،
قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله".
ومنهم من كان
يرى أن وجوبه منسوخ، فهو ليس واجبا، قال الإمام أبو حنيفة: "كان واجبا فنسخ بصوم
رمضان"، ولكن الإمام الشافعي خالفه، فقال: "لم يكن واجبا في الأصل".
وبسبب هذا الخلاف يتضح من قول بعض الفقهاء: صومه مستحبا وليس واجبا تبعا لقول معاوية
بن أبي سفيان: سمعت رسول الله يقول: "إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه،
وأنا صائم، فمن شاء صام، ومن شاء فليفطر". وهذا يتعارض مع حديث ابن عباس الذي أكد
فيه أن النبي صامه وأمرهم بصيامه، قال بن عباس، قال النبي: "أنا أحق بموسى
منكم، فصامه، وأمر بصيامه". وعن الرُّبيع بنت معوِّذ، قالت: "أرسل رسول الله
غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن
كان مفطراً فليتم بقية يومه(أي ليصم ما بقي من اليوم)، فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوِّمه
صبياننا الصغار، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم أعطيناها
إياه، حتى يكون الإفطار(أي يجبرون الأطفال على إتمام الصيام رغم المعاناة)". ومثله
عن سلمة بن الأكوع، "أن رسول الله أمر رجلا من أسلم: أن أذن في الناس: من كان
أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم عاشوراء". وعن أبي موسى
الأشعري، قال: "كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود، وتتخذه عيدا، فقال رسول الله
صوموه أنتم"(وهذا أمر من النبي بصيام اليوم). وعن جابر بن سمرة، قال: "كان
رسول الله يأمر بصيام يوم عاشوراء، ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده(وهذا أمر آخر
بوجوب صيامه)، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده". وهذا
القول يعيدنا إلى ما ذكرناه آنفا عن توقيفية العبادات.
بعد ذلك وضعوا
قواعد عبادية من عندياتهم، فقال بعضهم: "يكره صيام عاشوراء وحده"، وقال بعضهم:
"إنه أمر مباح"، وأراد ابن تيمية التوفيق بين هذا الخلاف، فقال: "لا
يكره صيام عاشوراء وحده، ولا شك أنه ينبغي أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، ولا يصومه
وحده، ولكن لو أن إنساناً لم يستطع صوم عاشوراء إلا وحده، فحينئذٍ نقول تزول الكراهة
للحاجة، أما لغير حاجة فلا ينبغي صيامه وحده". وعن ابن عباس،
أن النبي قال: "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود: صوموا قبله يوماً، وبعده
يوماً، أو: صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده".
وبعد هذه
المنظومة من خلاف واختلاف الفقهاء، جاء من وضع لهذا الصيام المُخْتَلف فيه أفضالا
غريبة، وقواعد أغرب، فعن فضله، أوردوا عن أبي قَتادة، قوله: قال رسول الله: "صوم
عاشوراء يكفِّر السنة الماضية، وصوم عرفة يكفِر سنتين: الماضية والمستقبلة". بل
جاءوا بحديث عن ابن عباس أن النبي كان يترقب هذا اليوم ليصومه لعظمته! وهو قوله: "ما
رأيت النبي يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر،
يعني شهر رمضان". وقال النووي عن صوم عاشوراء: "يُكفّر كل الذنوب الصغائر،
وتقديره يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر". وعن قواعده جعلوا الاكتحال يوم
عاشوراء سنة، وخصوه بصلاة، وأوجبوا الاغتسال والتعييد بالمصافحة، وإظهار مظاهر
الفرح من خلال إعداد بعض ألوان الطعام الخاصة كأكلة عاشوراء.
وبالمناسبة
يعود أصل أكلة أو حلوى عاشوراء إلى استشراء روح الطائفية المقيتة، فأصلها أن الفاطميين
الذين حكموا مصر، أعلنوا الحزن في عاشوراء ذكرى استشهاد الحسين، وأقاموا الشعائر
الحزينة، وجللوا المدن بالسواد إظهارا للحزن، فلما سقطت دولتهم، حاول أعداؤهم
تشويه صورة الحزن واقتلاعها من ضمائر المصريين، فابتكروا أكلة تدل على الفرح
وتعاهدوا صنعها من خزانة الدولة وتوزيعها مجانا على البيوت، ثم أمروا الناس بعد
ذلك بصنعها، وألزموهم بوجوب تبادلها بينهم، لكي يُعرف أنهم صنعوها، ومن هنا أخذت
معاجم اللغة معنى عاشوراء، وكأن الإسلام مجرد قدر حلوى لا مصائب آل البيت والبلوى!
وهكذا تأكد لي
أن كل ما قيل ويقال عن صيام عاشوراء هو من فقه الدولتين الأموية والعباسية، ولا
علاقة له بفقه الرسالة المحمدية، وعلى الأمة أن تتخلى عن ابتكارات السياسة التي
تسببت بزرع الطائفية بين المسلمين، في الأقل احتراما لرسول الله فإنه حتى لو كان
موضوع الصيام والفرح بيوم عاشوراء من ابتكار النبي، فإنه من الواجب عليهم كتمان
هذا الفرح احتراما لمشاعر النبي نفسه بعد استشهاد ولده في هذا اليوم على يد أمته
لا على يد الأعداء!.