19‏/03‏/2020

بالعلم تحيا الأمم الصين وكورونا نموذجا





كان كتاب الله سبحانه وتعالى صريحا في إعلان فضل العلماء على غيرهم من الناس، منه قوله الله تعالى: {قل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. وتأكيدا لهذا الفضل الكبير، قرن الباري سبحانه؛ في آيات أخرى منزلة العلم بمنزلة الإيمان، كما في قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} ومن هنا جاء الإعلان النبوي: "العلماء ورثة الأنبياء". وقد اهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذه الوراثة كثيرا، فأكد على علو مكانة العلماء وأهمية ما يسعون إليه، والأحاديث في ذلك لا تحصى منها:
ـ أخرج ابن ماجه، عن ابن عباس، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد".
ـ اخرج الترمذي، عن أبي أمامة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) إنه ذُكِرَ له رجلان، أحدهما عابد والآخر عالم، فقال: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم".
ـ أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين: "فضل العلم أحب إلى الله من فضل العبادة، وخير دينكم الورع".
ـ وفي الأثر، عنه (صلى الله عليه وآله)، قال: "فضل العالم على العابد سبعون درجة، ما بين كل درجة ودرجة مسيرة خضر جواد مائة عام".
من هنا أدرك العلماء الأوائل منزلة العلم، وعظيم دوره في بناء الأمة وتقدمها وتطورها وسموها، فأفاضوا في الحديث عن هذه الأهمية، ومنه:
ـ عن أبي ذر (رض)، قال: "الباب يتعلمه الرجل أحب إلينا من ألف ركعة تطوعاً".
ـ عن ابن عباس(رض)، قال:" تذاكر العلم بعض ليلة أحب إليَّ من إحياءها".
ـ عن أبي الدرداء(رض)، قال: "مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة".
ـ وقال الإمام الشافعي (رض): "طلب العلم أفضل من صلاة النافلة".
ـ وقال الإمام أحمد بن حنبل (رض): " العلم لا يعدله شيء".
لكن مع كل هذه الآيات والأحاديث والأقوال تجد مشكلتنا تكمن في أن المسلمين لم يفهموا هذه المعادلة على حقيقتها، لم يفهموا أبعادها الحقيقية، غايتها، مقاصدها، أهدافها، واكتفوا بفهمها على أنها دعوة إلى التبحر والاهتمام بـ(علوم الدين) فقط دون سواها من العلوم الأخرى، وهذا ما يتضح من بعض، بل من كثير من أقوالهم، إذ تجد لهم في ذلك المنهج الغريب الكثير من الأحاديث التي يتداولونها. والمشكلة الأكبر أنهم قالوا هذا، واعتقدوا به، وذهبوا إليه؛ مع أن أغلب تلك الأحاديث لم تقرن العلم بالعبادة، وإنما قارنت بينهما، فقدمت العلم على العبادة، إذ لو أنها قرنت بينهما لكان العلم مساويا للعبادة أو دونا عنها، وحينها سيصبح فرعا من فروع العبادة وتابعا لها، وهذا خلاف ما أراده الشارع المقدس.
إن من يتابع أقوالهم التي تداولوها ولا زالوا ـ للأسف ـ يتداولونها، سيجد دعوات صريحة إلى نبذ العلم الحقيقي وتركه وتجنبه والابتعاد عنه، لا بالاعتماد على ما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة من آيات وأحاديث، وإنما اعتمادا على أضغاث أحلام! ومن تلك الأقوال التي روجوا لها في ذم العلوم الأخرى ما أورده الخطيب البغدادي في كتاب "اقتضاء العلم والعمل" (ص 93، الحديثين: 154و 155) عن نصر بن علي، وقد روى نصر بن علي الرواية الأولى بالواسطة وكأنه لم يسمعها بنفسه، وروى الثانية بدون واسطة باعتبار أنه سمعها مباشرة!
ـ جاء القول الأول عن نصر بن علي، عن محمد بن خالد، قال: حدثني علي بن نصر؛ يعني أبا نصر، قال: "رأيت الخليل بن أحمد الفراهيدي في النوم، فقلت في منامي: لا أرى أحدا أعقل من الخليل، فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: أرأيت ما كنا فيه؟ فإنه لم يكن شيء أفضل من (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر). بمعنى أن هذا القول أفضل من علوم الدنيا كلها! ومع اننا نؤقن بعظمة هذا القول إلا أنه يستحيل أن يكون دعوة للابتعاد عن العلوم الأخرى.
ـ وجاء الثاني وهو أكثر صراحة وتفصيلا من الأول، عن نصر بن علي، عن والده علي بن نصر دون واسطة: سمعت أبي يقول: "رأيت الخليل بن أحمد في المنام، فقلت له: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: بم نجوت؟ قال: "بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". قلت: كيف وجدت علمك، أعني العروض والأدب والشعر؟  قال: وجدته هباء منثورا".

والنتيجة أننا كأمة مسلمة لم نبدأ في التماهي مع التطور العلمي العام وخوض غماره إلا بعد أن ضعف الوازع الديني لدينا وقلت سطوة الدين على النفوس؛ بعد عصر الخلافة وصولا إلى سقوط دولة الأمويين وقيام دولة العباسيين، حيث تسبب وفود أبناء الأمم الأخرى واقتراب وتعلق المسلمين بمباهج الدنيا في حث أهلنا على العمل في العلوم المختلفة الأخرى بما في ذلك الفلسفة والطب والرياضيات والكيمياء والسيمياء، فبرز بينهم علماء عظماء لا زالت أعمالهم مصدر إلهام للأمم الأخرى وعلمائها، أما الذين تمسكوا بعلوم الدين وحدها، واوقفوا نشاطهم على تفسيرها وتعليلها وتأويلها، وابتعدوا عن علوم الدنيا فلم يردعهم تمسكهم هذا عن ارتكاب الموبقات، بل تحولوا تدريجيا إلى سلفيين جامدين على النصوص الموروثة وقتلة وذباحين، فلم يسهموا في تأخير الأمة فحسب بل دمروا تراثها العلمي، وزرعوا كراهيتها في قلوب الأمم الأخرى، ولو أنهم وازنوا بين العلمين لاستمرت أمتنا متربعة على عرش التفوق الدولي وانقادت الأمم إليها طائعة بدل أن تهلكنا الأمراض مثل مرض كورونا، ونحن لا نملك سوى أمل ان يكتشف الآخرون علاجا ويمنون به علينا مقابل ملايين الدولارات!.