لم يكن في المجتمع المكي قبل الإسلام، ولا حتى بعد ظهور الإسلام، وحتى إلى
ما قبل فتح مكة بقليل أي مؤسسة حكومية، ولم تكن هناك دولة، ولم يكن هناك كيانا
سياسيا حاكما، أو نظاما أو قانونا موحدا.
لم يكن هناك سوى إجماع العشائر وحلفائهم فيما عرف باسم (الملأ)، والملأ: هم
أشراف القوم وعليتهم وساداتهم وقادتهم. وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة في
العديد من السور عند الحديث على قصص الأنبياء، وما جرى بينهم وبين قومهم، علما أن إطلاق
القرآن الكريم هذا اللفظ وهذا الوصف على هؤلاء الناس إنما هو من قبيل بيان الواقع
لا من قبيل الاستحقاق.
أما اجتماع الملأ نفسه فلم تكن قراراته ملزمة، إلا إذا اتخذت بالإجماع. ومع
هذا كان الأمن الشكلي أو الظاهري مستتبا إلى حد كبير، لا قتل، لا سرقة، لا تفجير،
لا تهجير، لا سبي، لا تكفير، وحتى بعد إعلان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لدعوة
الإسلام بكل ما تنطوي عليه من تحد وتهديد لهم ولعقيدتهم ولكيانهم، فإن أحدا لم
يقتله، ولم يفكر في ذلك، ولم نسمع عن محاولة لاغتياله مثلا، قامت بها القبيلة
الفلانية أو الفلانية، وحتى ما قيل عن تعذيب من أسلم كان بسيطا نسبة إلى ما قام به
الرومان بحق المسيحيين الجدد الذين اعتنقوا المسيحية حيث كانوا يقيمون حفلات خاصة
فيطلقون المسيحيين في حلبة صراع ثم يطلقون عليهم الأسود الجائعة لتفترسهم أمام صرخات
المتفرجين والأباطرة.
وحينما سقط النظام البعثي في عام 2003 بقي العراقيون لمدة أربعة أشهر بلا
حكومة ولا شرطة ولا أمن ولا قانون ولا محاكم، ولكنهم مع ذلك كانوا يُسيرون حياتهم
وكأن كل تلك الإكراهات وموجباتها موجودة ومسيطرة.
ثم تجدنا اليوم، مع وجود رئيس جمهورية، ووجود حكومة انفجارية بلغ عدد
وزرائها أكثر من ثلاثين ونصف وزير، نصفهم بدون وزارات والنصف الآخر وزارات بدون
وزير حقيقي لأنهم في الغالب كانوا من (المج)، ومع وجود برلمان يضم 327 (مقموعا)
أرعنا فاسدا مفسدا لصا سارقا ناهبا، ومع وجود مئات الآلاف من القوات المختلفة
الأنواع بين الجيش والشرطة بكل مسمياتها وأزيائها وألوان نظاراتها، إلا أننا مع كل
ذلك، نفتقد أبسط مقومات الأمان، ونكاد نفقد أرواحنا أو حريتنا عند كل انعطافة طريق،
فهل نحتاج اليوم إلى (ملأ) جاهلي يعيد ترتيب حياتنا الحاضرة، أم نحتاج إلى تحضر
ورقي يهدي الملأ ويثيبهم إلى رشدهم علهم يرعوون؟!