لا زلت مشغولا في البحث في أسس خلاف الأمة؛ الذي أفضى إلى تقاتل مكوناتها
عبر التاريخ، ولا زلت أطلع يوميا على واحد أو أكثر من أسباب هذا الخلاف ومسبباته،
وآخر ما أطلعت عليه كان من أوجه الأسباب وأكثرها تأكيدا على أن بعض من نصبوا
أنفسهم في موقع الإفتاء، شغلوا أنفسهم في تفاهة لا تقدم شيئا وتؤخر كثيرا،
وامتنعوا عن البحث في الأسباب الجوهرية للخلاف.
نعم قد يقول قائل: ولكن ذلك من أصول الشريعة باعتبار أن هناك مجموعة أحاديث
منسوبة إلى النبي (ص) تتكلم عن آداب الخراءة! ونقول لهؤلاء: نحن لا ننكر أن رسول
الله (ص) سعى إلى تهذيب وتشذيب سلوكيات الأمة، وإرشادها إلى سبل الحياة الكريمة
الصحية الصحيحة، ولابد وأنه (ص) رصد بعض عاداتهم وأخطاءهم في هذا المضمار، فأرشدهم
إلى الصحي والصحيح منها. وقد جلب ذلك انتباه الأعداء حتى أن أحد المشركين سأل
سلمان الفارسي: "قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟"(1) لكن من المؤكد
أيضا أنه لم يكن بالمعنى الذي ذهبوا إليه!
إن من الثابت والمؤكد أن هدفه (ص) من هذه التعليمات كان تنظيمهم وتدريبهم
على فعل الحسن والصحي والصحيح، وتجنب ما يضر بمصالحهم وصحتهم، ومن ذلك قوله (ص) في
استخدام اليد اليمنى أثناء النظافة: "إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه
ولا يستنجي بيمينه"(2) ومثله: "إذا تمسح أحدكم فلا يتمسح بيمينه"(3)،
لسبب بسيط وهو أن الإنسان يتناول طعامه عادة بيده اليمنى التي قد تتلوث، فيصاب
بالمرض.
ودعوته(ص) إلى أن يستتر المسلم؛ الذي يروم قضاء حاجته عن أعين
الناس، حتى أنهم قالوا إنه (ص) كان يفضل أشياء بعينها يتستر بها وفي صحيح مسلم:
أحب ما استتر به رسول الله لحاجته هدف(أي مرتفع من الأرض)، أو حائش نخل(حائط نخل
وهو البستان)(4)
أو كان يبتعد عن باقي
البشر، لكي لا تؤذيهم الرائحة، ولا تظهر لهم عورته، عن المغيرة بن شعبة، قال: كنت
مع النبي في سفر، فأتى النبي حاجته، فابتعد في المذهب"(5). ومثله عن عبد
الرحمن بن أبي قُراد، قال: خرجت مع رسول الله إلى الخلاء، وكان إذا أراد الحاجة
أبعد(6)
إن هذه الأحاديث جاءت
من باب ستر العورة كما في قوله(ص): "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا
المرأة إلى عورة المرأة،ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة
إلى المرأة في الثوب الواحد(7). وهذه الأحاديث بمجملها جاءت تعلمهم محاسب ومكارم
الأخلاق.
لكن القسم الآخر منها
أوردوه رواية، بمعنى أنه جاء إخباريا عن الصحابة أو منسوبا إليهم، يتحدث بعضه عن
خصوصيات ما كان لهم أن يطلعوا عليها، لأن مجرد الإطلاع عليها يخالف مضمون الأحاديث
التي تقدم ذكرها، وهذا يعني أنها جاءت إما من تخمين، أو اجتهاد شخصي لا أكثر، ومن
ذلك ما نسب إلى أنس بن مالك أن النبي إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من
الأرض"(8)
ومثله حديثهم عن غسل
النبي مقعده بعد قضاء الحاجة ثلاثا، جاء عن أم المؤمنين عائشة أن النبي(ص) كان
يغسل مقعدته ثلاثا" وقال عبد الله بن عمر في تأييد ذلك: "فعلناه،
فوجدناه دواء وطهورا" (9)
وهو ما دفع أبا هريرة
إلى القول: عن النبي(ص): "إذا استجمر أحدكم فليستجمر وترا"(10)
ومثله ما رواه أبو
هريرة أنه كان يحمل مع النبي إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال: من
هذا" فقال: أنا أبو هريرة، فقال: أبغني أحجارا استنفض بها، ولا تأتيني بعظم
ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى
إذا فرغ، مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: "هما من طعام الجن"(11)
هكذا كان حالهم، حتى
أنهم جمعوا لرسول الله(ص) حالة خالف فيها جميع النواهي التي مر ذكرها، ثم استخرجوا
من هذا الحديث حكما فقهيها يقول: "وجمهور العلماء على كراهية الكلام في
الخلاء لغير حاجة" أما الحالة فهي حديث منسوب إلى جابر بن عبد الله الأنصاري:
أن رجلا مَّر على النبي وهو يبول، فسلَّم عليه، فقال رسول الله: إذا رأيتني على
مثل هذه الحالة فلا تسلم عليّ، فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك"(12)
ومع أن هناك من يرى إنّ من عظمة الشّريعة الإسلامية أنّها ما تركت خيرا في
قليل ولا كثير إلا أمرت به ودلّت عليه ولا شرا في قليل ولا كثير إلا حذّرت منه
ونهت عنه ، فكانت كاملة حسنة من جميع الوجوه، وهذا صحيح جدا، إلا أني أرى أن بعض هذه
الأحاديث، وضعت بعد عصر البعثة، وتحديدا في الزمن الذي شغل به وعاظ السلاطين
أنفسهم والمجتمع معهم بمثل هذه المواضيع، لكي يشغلوا الأمة عن التطلع إلى ما يدور
حولها من خروج الحكام على مباني الشريعة، ويبعدوها عن النظر إلى تطلع الأمم
الطامعة بأمة الإسلام، بدليل أن كل تلك المعمعة وكل ذاك التهريج، خبا واختفى في
مرحلة لاحقة، ولم يعد له وجود ولا ذاكر، حينما ضعف الوازع الديني عند الناس
وانشغلوا بأمور حياتهم ولهوهم، ولم يعودوا يعيبون على السلطان خروجه على مباني
الشريعة، مع أن الحديث عنه في مثل هذه الظروف أنفع وأجدى، إلا أنه كان يثار
ويستثار في أيام المحن التي تمر على الأمة لنفس الأسباب التي أثير لأجلها في أول
مرة.
اليوم تمر الأمتان العربية والإسلامية بامتحان عسير يكاد يتهدد وحدتهما
ووجودهما، بل ويهددهما بالفقر والجوع والفناء، وهي الساعات الفضلى لفقهاء الفتنة
من وعاظ السلاطين، وخدم السياسيين، ليرفعوا عقيرتهم داعين إلى التمسك بمنظومة آداب
الخراءة تلك، لكي يصرفوا أنظار الأمة عن محنتها، ويشغلوها بمسائل فقه غائطها
وبولها. المشكلة العظمى أن تغييرا وقع على الأسلوب القديم الموروث من خلال توظيف
معطيات الحضارة ومنابر العلوم لتخدم هذا التوجه المنحرف لدرجة أن تأخذ جامعات
إسلامية على عاتقها الترويج لهذه الثقافة السخيفة، ومن هذا الباب جاءت إجازة قسم الفقه في كلية الشريعة في جامعة
الإمام محمد بن سعود الإسلامية لرسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الفقه، وهي بعنوان
"أحكام الأصوات الصادرة من الإنسان عدا الكلام"(13) للطالب
صالح
بن محمد الرزقان وبإشراف الدكتور بلال بن محمد
بن بلال، 1431ـ1432 هجرية.
فهل يعقل أن تهتم المؤسسات العلمية العربية بمشكلة (الضراط) في وقت هي بأمس
الحاجة إلى الاهتمام بمسألة الصراط!.
الهوامش
(1)
سنن الترمذي، حديث رقم 16 وقال حديث حسن صحيح.
(2)
صحيح البخاري، حديث رقم 154.
(3)
رواه البخاري وابن ماجة عن حفصة وعن أبي هريرة برقم 308.
(4)
صحيح مسلم، حديث رقم 79/342.
(5)
سنن الترمذي، حديث رقم 20، وقال: هذا حسن صحيح.
(6)
سنن النسائي، حديث رقم 16.
(7)
صحيح مسلم حديث رقم 74/338.
(8)
سنن الترمذي، حديث رقم 14.
(9)
سنن ابن ماجة، حديث رقم 350.
(10)
رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع حديث
رقم 3359.
(11)
صحيح وضعيف الجامع، الألباني، حديث رقم3571.
(12)
سنن ابن ماجة، حديث رقم 346 وهو في صحيح وضعيف الجامع 575
(13)
رابط نص الرسالة على الشبكة العنكبوتية:
http://libback.uqu.edu.sa/hipres/ABS/ind14468.pdf