كان لي صديق، صرت له
الأخ الشقيق، والرفيق الرقيق، أصبحت له ناصحاً، وجعلته على نفسي راجحاً، وعشت معه
على الإخلاص، في محنه له أتراص، أبعد عنه التهم، وأضع في فمه اللقم، أفرح لفرحه، وأشاركه
في ترحه، يجدني عند الحاجة، لأجعل الأمور على مزاجه، ضحيت له بالمهجة، وأوجدت له
الحجة، كنت أنسى منه الإساءة، وأبرر فعلته بالبراءة، وأجد لذنبه تبريرا، صغيرة
كانت أم كبيرة، كان يأتيني بعد كل إعصار، ويطلب بذل وانكسار، وعلى وجهه الهلوع،
حتى أخفيه بين الضلوع، من عيون السلطة، وذئاب الأمن والشرطة، فخلصته من الموت
الزؤام، ومن حبل المشنقة والإعدام، والكل يتفق ويجمع، حتى الجبان والأشجع، بان الأمر
خطير وخطير، مشفوع بالويل والثبور، لمن يساعد المعارضة، فقد تناله المقارضة،
وبلهفة الملهوف، كان يسألني عن المصروف، فأقطع من رزق العيال، حتى أكسوه بسروال،
وحسب مساعدة الحال، كنت أملأ له السلال، وأدس في جيبه الدراهم، وأمسح على جرحه
بالمراهم، وهكذا الحال، إلى أن تغيرت الأحوال، فإذا بصاحبنا يتألق، ولسلم المناصب
يتسلق، لكن طبعه تغير، وماؤه تكدر، وضحكه كلح، ووصاله كشح، فأصبح لا يرد السلام
إلا بتكلف، برداء الغطرسة تلحف، وحسب نفسه من الأخيار، الذين لا يشق لهم غبار، وفي
الأرض علا، وأدعى العُلا، وهو الذي استعلى، وليس عليه أحد يعلى، وخرج عن جادة
الصواب، ونهج منهج الدواب، فاختار بنيات الطريق، وتخلّى عن كل المواثيق، فصار همه
المناصب والكراسي، يبدل وجهه مع كل لباس، فملك الصامت والناطق، وسلك أرذل الطرائق،
فسيطر على العذوق، وداس على الحقوق، فتجبر وطغى، وتكبر وبغى، فصار كالذي إذا دخل
فهد، وإذا خرج أسد، وشوكه حاد طويل، وكل مسترسل أسيل، فصار لكل قاتل منزل، ولكل
مجرم موئل، لناصحه يقول انه حاسد، ولمرشده يقول انه حاقد، فصار كل نصاب، له من الأحباب،
ووصلت به الرعونة إلى حد الضغينة، لكل من له لا يصفق، ومع لحنه لا يزقزق، أو لا
يكون له الدرهم المبهرج، أو القلم الأعرج، أو اللسان الأعوج، ولأطماعه السلم
والدرج، وصار لعدم الوفاء أسوة، ولناكري النعمة قدوة، أتاني يوماً، وأشبعني
تقريعاً ولوماً، لأنني لا أسير على خطاه، ولا أتبع هواه، وأرادني احد أتباعه، ومن
مريديه وأشياعه، فقلت له يا من تدعي الأصول، لقد سحقت كل الأصول، فأنت لم ترض
بالقِنى، ولم يعجبك الغِنى، وتجاوزت المنى، والحياة عندك فرص، والخير في قلبك فطس،
فصدقت حدسك، وركبت رأسك، والله لو علم من ضحى، ومن سُحق تحت الرحى، والذي غُيّب في
السجون، أو المحترق في الأتون، أو من عُلِّق وشُنق، أو للخارج أبِق، أو من في
التيزاب ذاب، أو في المحارق صار كباب، أو من اغتيل في المحراب، أو غُدر خلف الأبواب،
أو الذي قضى في المقابر، أو الذي اعدم خلف السواتر، بأنك سوف تكون الأمير، وعلى
هذا النهج تسير، لندموا على فعلتهم، ولكفروا عن خطيئتهم، فأنت سحقت المبادئ
والقيم، وأضعت العادات والشيم، ونسيت الدين والمذاهب، وجعلت الناس في مصائب،
اخترعت للقتل فنون، وأرعبت الخلق بالمنون، وصرت كبير السراق، وعلمك في الاختلاس
خفاق، فلا خوف من الله يردعك، ولا خجل من الناس يمنعك، لا تفكر إلا بنفسك، ولا
تحمي إلا رأسك، وفي المظالم كفيت ووفيت، ومن شر ما أوتيت، شح هالح، وجبن خالح، وأنت
الضعيف الهزيل، صارت كرشك برميل، واستك أكبر من إست الفيل، حتى صرت مضرب المثل، في
باب السخرية والهزل، وأصبحت من جزاري الوطن، ومن محبي الفتن، ومثلي لا ينقاد
لمثلك، لا في ترحالك ولا في حلك، فقال إذن بيني وبينك الفراق، لا سلام بعد الآن
ولا عناق، وسوف أريك نار غضبي، التي ليس لها من مهربِ، فالويل الويل، لمن يتجاوز
عليَّ بالقول.
ويا سادة يا كرام ..
من أهل الخير والإكرام، فهمت من نبراته، سوف تلاحقني ضرباته، وهكذا كان، والى الآن،
ومع كل ضربة آتية، أتذكر عجوز البادية، وهي تبكي شاتها المقتولة، كالمجنونة
المخبولة، وتندب حضها العاثر، بفعل ذئب غادر، أدخلته الدار وهو جرو صغير، لكنه لم
ينس طبعه الحقير، وندبتُ مثل ما نَدَبتْ، وأنشدتُ مثل ما أنشَدتْ :
بَقرتَ شويهتي وفجعتَ
قومي وأنت لشاتنـا ابـن ربيـب
غذيت بدرِها ونشأت
معـــــها فمـن أنبأك إنَّ أبـاك
ذيـبُ
إذا كــان الطبـاع طبـاع
ســوء فــلا أدب يفيــد ولا أديــبُ
وفي أحد الأيام، وبعد
نقاش وكلام، رفضت غايته، وكشفتُ عورته، ففقد صوابه، وأرسل جحوشه ودوابه، فكسروا في
جسمي كل متن، وقلعوا مني كل ضرس وسن، وهشموا أضلاعي، وبعثروا متاعي، وبين التهديد
والوعيد، مع كل يوم جديد، وفي معركة اعتبرها فاصلة، ولنهايتي عاجلة، اتهمني
بالباطل، وجاء بشهود أراذل، الأول شاذ فاجر عاهر، والثاني في بيع الشرف ماهر،
والثالث في ميدان الرجولة خاسر، فجرجروني في المحاكم، أمام الجاهل والعالم، وأنت
تشاء وأنا أشاء، والله يفعل ما يشاء، وإذا بالقاضي الحاتم، لا يأبه لتهديد الظالم،
ولا تغريه صوت الدراهم، ولم يسمع الوَلْق، ونطق الحق، فأعادوا لي ثوب الوضاءة،
وحكم لي بالبراءة، وأعلن للعيان، بكل وضوح وبيان، بان التهم غير قانونية، وغير
صحيحة أو أصولية .
هذه قصة صديقي بصدق،
بلا زيادة أو تحذلق، وكلما أرى صورته، أو أتذكر فعلته، ألعن يومي الذي فيه عرفته،
وألوم نفسي لأني ساعدته وآويته، ولم أرد منه عونا، حتى يصير لي فرعونا، ولله في
خلقه شؤون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.