كان المغفور له ملك
العراق غازي بن فيصل الأول مغرما بالتجديد وكانت لديه رغبة جامحة ليوصل أفكاره
للأمة العراقية التي كانت تعيش سباتها التاريخي، دفعة هوسه إلى استيراد جهاز إرسال
إذاعي بقوة واحد كيلو/واط ومجموعة من أجهزة الاستقبال وزعها في بعض مناطق بغداد
المهمة، وبدا يبث من خلالها خطاباته وأقواله ورؤاه من داخل قصره الملكي المنيف؛
الذي تحول في عصر الجمهورية وزمن الثورات التقدمية إلى دائرة للمخابرات، يرتعب
العراقيون من سماع اسمها أو مجرد المرور قريبا منها ولو بمسافة خمسين مترا.
تطور الهوس الملكي،
ليصبح الجهاز البسيط نواة الإذاعة العراقية الرسمية التي بدأت بثها في الأول من
تموز عام 1936 وهي البادرة التي استقبلها العراقيون وكأنها نوعا من السحر؛ الذي
كانت تزخر به قصصهم الموروثة عن الجنيات والطناطل والسعالي.
يروي الإذاعي المغترب
المعروف إبراهيم الزبيدي في كتابه "دولة الإذاعة" قصة هذا الاستقبال
ويقول: لقد ترك الناس بيوتهم وتجمهروا في الساحات العامة التي نصبت فيها أجهزة
الاستقبال التي كانت عبارة عن صناديق خشبية فيها أزرار ولوحة عليها بعض الإشارات،
وزحفت الجماهير إلى منطقة "الصالحية" لمشاهدة المكان الذي يصدر عنه هذا
الصوت العجيب.!
وكانت إذاعة بغداد
تبث أيام السبت والاثنين والخميس فقط لمدة ساعة واحدة صباحا وأخرى مساء ليصل صوتها
إلى مديات محدودة جدا نظرا لضعف قدرة مرسلاتها التي لم تتجاوز النصف واط وبطول 391
مترا، وهذا يعني أنها كانت قطرة في عالم الإذاعات الحديثة التي تزيد قوة إرسال
بعضها على الثمانمائة كيلوا/ واط، وارتبطت الإذاعة أولا بوزارة الأشغال والمواصلات،
ثم ألحقت بوزارة المعارف، وبعدها بوزارة الداخلية.
خلال هذه الحقبة
بدأت الراديوات الشخصية تصل إلى العراق،
وكان شراؤها يتم عن طريق الجهات الرسمية، ولا يطلبها سوى الموسرين والوجهاء
والتجار، ويجب على الشخص أن يحصل على إجازة تشغيل الجهاز مقابل دفع رسم مقداره
خمسمائة فلس لمدة سنة واحدة، ولا زلت أحتفظ بأحد وصولات قبض المبلغ باسم خالي
المرحوم السيد عزيز رضا إلى الآن. ثم بدأت الدار تتطور وتتقدم وتتعلم من الآخرين
لتصبح فيما بعد من أشهر الإذاعات العربية والإقليمية، ولاسيما أن البث التلفزيوني
لم يكن قد دخل إلى المنطقة بعد.
ثم بعد أن أثبتت جدارتها، ارتبط المواطن العراقي
الباحث عن المعلومة والمتعة بها حتى أصبحت المتنفس الأكبر للعراقيين بأغانيها
وتمثيلياتها وأحاديثها وتعليقاتها، وصار الناس ينتظرون بزوغ فجر اليوم الجديد ليسمعوا
بلبلها الغريد، وأصوات المقرئين تتغنى بالقرآن وإخبار العالم من خلال النشرات
الإخبارية.
أستمر الحال بهذه
السليقة الرتيبة المملة حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وابتداء من هذا
التاريخ، تغيرت علاقة المواطن العراقي بالإذاعة، وبات ينظر إلى جهاز الراديو الذي
تكاثر وجوده بشكل ملفت على أنه يأتي بالأخبار التي تنغص عليه حياته.
ثم جاءت 8 شباط 1963
التي حولت الإذاعة برمتها إلى مصدر للحديث عن المؤامرات والانقلابات العسكرية
والاغتيالات وتقديم أوراق البراءة والتزلف للحكام والكذب على الجماهير والضحك على
الذقون.
ثم جاءت 18 تشرين من العام نفسه، وبعدها 17 تموز من عام
1968 وتحول الراديو إلى منغص لعيش العراقيين، لكن لا أحد تخلى عن جهاز الراديو بل
زاد تعلقهم به لسماع ما تقوله المحطات الخارجية من أخبار عن العراق والعراقيين.
أما اليوم فقد أصبح الراديو أحد الأجهزة التاريخية التي تركها الآباء كعبء على
الأبناء، ويا له من عبء بعد أن أصبحت الأحزاب والمنظمات والعشائر وحتى التنظيمات
الإرهابية وغيرها تملك محطات البث الخاصة بها، ينقل الأف أم صوتها، وكل منها تبث
نوع السموم الذي اختارته لتقتل عن طريقه آخر فرصة لدى العراقيين في الحياة!.
