15‏/03‏/2018

سؤال صريح وجوابه أكثر منه صراحة











نشرت يوم 11/3/2018 مقالا بعنوان "طريق الخلاص.. اختلاف المناهج ووحدة الهدف" بمناسبة العمليات الإرهابية الأخيرة التي طالت الأقليات الصابئية والمسيحية في بغداد وهم داخل بيوتهم، ومن دون كل الردود التي تلقيتها كان رد شخص أسمى نفسه ( البروفسور كمال مجيد) الذي جاء في مداخلته قوله: "انك بهذه المقالة رفضت نظرية ان الاسلام (خير امة اخرجت للناس) وهذا تطور ايجابي.
ثم انك بهذه المقالة رفضت فكرة اخذ الجزية من الاغنياء الذين يؤمنون بالاديان الاخرى ومنعت قتل الذين لا يستطيعون دفع الجزية لأن لهم ضائقة مالية.
سأكون شاكرا اذا بينت رأيك في النقطتين".
فوجدت من اللازم أن أبين له ما وقع فيه من إشكال، وجاء في ردي عليه:
أستاذ كمال لقد جشمتني عناء حمل أسئلتك الثقيلة التي لا يكفي للرد عليها هذا المجال، ولكني سأقول باختصار:
1ـ أنك لو تتبعت تكملة الآية الكريمة ستجد لهذه الخيرية ضوابط وشروطا، فالآية تقول: {كنتم خير أمة أخرجت للناس ((تأمرون بالمعروف)) ((تنهون عن المنكر)) و((تؤمنون بالله)) ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (آل عمران: 110).
وهناك فيها شقان الأول: بمعنى أنكم إذا تخليتم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتركتم الإيمان بالله، أو ضعف إيمانكم، فإنكم سوف تفقدون هذه الخيرية.
الثاني: أن أهل الكتاب، وهو مصطلح يطلق على أتباع الديانات السماوية السابقة وتحديدا على اليهود والنصارى، لو تمسكوا بتلك الوصايا التي هي أساسا موجودة في عقائدهم لظلوا خير الأمم، ولو عادوا إليها في زمانكم مرة أخرى، لعادوا خير الأمم مجددا.
ولكن لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى تمسكوا بهذه الوصايا، ولذا فقدوا الخيرية وبقوا مجرد نقاط على محيط دائرة الاعتقاد يرى كل منهم أنه يسير نحو الله تعالى بطريقة قد تكون أصلح من باقي الطرق.
2ـ لو قيض لك مراجعة كتب التفسير وأقوال العلماء في هذه الآية ستجد أن الخيرية المقصودة فيها ليست شاملة دائمة وإنما هي مخصوصة محدودة بدليل أنك تجد في الجزء الثاني من تفسير البغوي الصفحات 89 وما بعدها:
كونها تخص صحابيين فقط: قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهودا اليهوديين قالا لهم : نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعوننا إليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
كونها تخص جيل المهاجرين من الصحابة فقط: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) الذين هاجروا مع النبي إلى المدينة. أي لا تشمل حتى الأنصار!.
كونها تخص الرواة والدعاة فقط: قال جويبر عن الضحاك: هم خاصة الرواة والدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.
كونها تخص أول الأمة ولا تخص آخرها: روي عن عمر بن الخطاب قال: كنتم خير أمة أخرجت للناس؛ تكون لأولنا، ولا تكون لآخرنا.
كونها كانت أمة دموية تحمل سيوفها على عاتقها وتقاتل كل من يرفض الدخول في دين الإسلام فإذا وضعت السيف فقدت الخيرية: قال قتادة : هم أمة محمد لم يؤمر نبي قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في دينهم فهم خير أمة للناس.
خلاصة قولي في الخيرية: أن الله تعالى تابع إرسال الرسل ليتماهون مع التطور الفكري البشري، وكل رسالة كانت تأتي متممة (لا ناسخة) للتي قبلها وأكثر منها تشعبا ووصايا، فهي خير من سابقاتها، ولكنها كانت تفقد هذه الخيرية بتخليها عن الوصايا والأوامر والنواهي. وحينما جاء الإسلام وهو الرسالة الأخيرة، جمعت فيه الخيرية كلها، وهذا يوضحه حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أنه سمع النبي يقول في قوله تعالى: (كنتم خير أمة)، قال: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل". ونحن المسلمين لسنا بدعا من الأمم فالخيرية تبقى فينا ما دمنا متمسكين حرفيا بالوصايا والأوامر والنواهي ومتى ما تخلينا عنها تسقط أفضليتنا وخيريتنا ونصبح مثل غيرنا.
3ـ أنا كلما أقرأ هذا المقطع من الآية الشريفة (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) تزداد قناعتي أنها تعني أن أهل الكتاب لو بقوا مؤمنين بتعاليم دينهم لبقوا الأفضل والأخير، ولا يقصد بها إيمانهم بالإسلام بدليل قوله تعالى (منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون) أي منهم المؤمنون برسالة دينهم ومتمسكون بوصاياها، ومنهم فاسقون، وحضرتك تعرف أن الفاسق من فسق ومعناها اللغوي: عصى وجاوز حدود الشرع، وخرج عن طاعة الله.
وهنا جاء دوري لأسألك: هل أن أمة الإسلام المعاصرة التي يذبح بعضها بعضا ويكفر بعضها بعضا، وتقوم بأقبح ما مر في عصور التاريخ بدأ من حرق الأحياء وصولا إلى سبي أتباع الأديان الأخرى هي خير الأمم؟
وسأكتفي بهذا الرد لأن فيه غنى عن الاستمرار في الحديث عن الجزية وغيرها.
ولكن الرجل أصر على رأيه، واستغل آخر كلمات ردي الأول فكتب لي قائلا: "تسألني عن المسلمين الذين يحرقون الاحياء ... الخ. ان هؤلاء اثبتوا فشل الدين الاسلامي في نشر الخير على البشرية . فالتمسك به لا ينقذنا من الشرور. اما الجزية فاكون شاكرا لو تمكنت ان تشرح لماذا اعطى الدين الاسلامي الحق للاغنياء ان يتمسكوا بدينهم اما الفقراء فليس لهم نفس الحق. شكراً لاجابتك الطويلة.
وكتبت له:
أستاذ كمال سأكون صريحا معك وأرجو ان تتحملني
أولا: لا انت ولا غيرك يمكن ان يدعي مجرد ادعاء ان الإسلام فاشل، فالإسلام رسالة سماوية مقدسة مثل كل الرسالات السماوية الأخرى وهو خاتم الرسالات.
ثانيا: كل عاقل ومنصف من المشتغلين بالدراسات الدينية والتاريخية يعرف تمام المعرفة أن الإسلام جاء كاملا متكاملا صالحا في جميع الأوقات والظروف والجغرافيات والمجتمعات.
ثالثا: أن هناك من المسلمين أنفسهم من لم يعط الإسلام فرصة إثبات ذاته، وعمل جاهدا على تحريف الكثير من مبانيه لتحقيق غايات شخصية، وانا أشرت في أكثر من كتاب من كتبي إلى هذه الظاهرة التي صادرت جمال وإنسانية الدين وحولته إلى وسيلة لتحقيق المآرب والغايات. وكان السياسيون العرب من الذين أسلموا عام الفتح سنة ثمان للهجرة مدعومين باليهود والروم قد تمكنوا من مسك زمام الدين من خلال كم كبير من وعاظ السلاطين، وهم موظفون رسميون لدى السلطة، كانوا يحرفون التفسير والحديث وأسباب النزول وحتى الأحكام الفقهية لتتساوق مع الأهداف السياسية مقابل الحصول على أموال ضخمة، إلى درجة أنهم ادعوا أن آية السيف وحدها نسخت مائتي آية في كتاب الله!. وقد نجح الوعاظ والكهنة في حرف الدين عن مساره، وقاموا بأعمال مخزية تركت أثرا سيئا على الدين.
من هنا تجد أن كل خير وجمال ونظافة في الدين هي من أصوله غير المحرفة، وكل قبح ورذيلة وظلم وإكراه هو من فعل الوعاظ واعوانهم بأوامر من السياسيين.
وكانت الجزية واحدة من الأمور التي حُرف مقصدها عن هدفه تماما مثل الفتوح الإسلامية التي حُرف هدفها هي الأخرى. وضعت الجزية وهي مال بسيط جدا يتمكن الأغلبية من دفعه على من لم يسلم من رجال أهل الكتاب كنوع من الضريبة مقابل حمايتهم مقابل إقامتهم في دولة الإسلام، وإعفائهم من التجنيد الإجباري، بأعتبار أنه ليس من الإنسانية ان يقاتلوا دفاعا عن غير عقيدتهم، وحتى مع هذا الحال تسقط الجزية في معظم الحالات، فيعفى من دفعها: رجال الدين/ الرجال غير القادرين على قتال/ الزمنة من الرجال أي ذوي الأمراض المزمنة/ النساء/ الأطفال. وهذا يوضح لك أن فكرتك التي جاء فيها (لماذا اعطى الدين الاسلامي الحق للأغنياء ان يتمسكوا بدينهم اما الفقراء فليس لهم نفس الحق) مغلوطة تماما لأن الفقراء كانوا معفيون من دفع الزكاة أصلا. لكن الذي حدث أن السياسيين الذين سيطروا على الإسلام ودولته حولوا الجزية إلى مكسب مادي إلى درجة ان الحجاج بن يوسف الثقفي كان يستوفيها حتى ممن يسلم من أهل الكتاب فضلا عن مضاعفة مقدارها.
أخيرا أقول لك: إن للقرآن محيطه التاريخي وللإسلام محيطه التاريخي وأن الكثير من الأحكام الإسلامية ممكن أن تترك ويوقف العمل بها تبعا للظروف العامة وهذا من كمال الرسالة.
وأعود واذكرك أن كل ما تسمعه وتراه من أعمال الجماعات الإسلامية الراديكالية المتطرفة لا يمت إلى الإسلام بصلة لا والله، وأن الإسلام الحقيقي ينظر إلى الآخر مثلما ورد في موضوعي تماما، وعلى سبيل المثال أنا لدي من بين أعز أصدقائي وأقربهم إلى نفسي علمانيين ويساريين وملحدين أحترمهم ويحترموني.
أتمنى في النهاية بصفتك (بروفسور) أن تبحث عن النقول والمصادر الموثوقة والدراسات الأصيلة لتستقي منها معلوماتك بدل أن تبحث في الكتب الصفراء، وأتمنى كذلك أن تحترم الإسلام الأصيل الذي يتيح لك أن تبقى على إلحادك دون ان يحاسبك.

إن الذي أعتقده يقينا أننا بحاجة اليوم إلى أن نتمسك بأدياننا ونحافظ عليها ونحترمها في الأقل كموروث إنساني لا زال يعتقد بصحته ملايين البشر، بدل محاولات التسقيط الخائبة التي ستزيد الأمور سوء لأنها تفتح أمام العالم بوابات صراع جديدة هو في غنى عنها