غضب الحكام على أحد القضاة فنقلوه من بغداد
إلى بدرة عقوبة له، وبدرة مدينة من مدن محافظة واسط، مشهورة بأنواع في غاية الجودة
من النخيل النادر؛ الذي لا تجد له مثيلا في مدن أخرى. وشاءت الصدف أن تنشأ علاقة
صداقة بين القاضي وبستاني من أهل المدينة، تطورت وتعمقت بمرور الأيام، وكان القاضي
خلالها يزور صديقه البستاني ليجلس معه في بستانه عصرا، يتمتع بتناول أنواع الرطب
اللذيذ والأجواء الجميلة، وفي إحدى المرات جلب له البستاني نوعا من تمور بدرة يسمى
(الزبيري)، نوع في غاية الفرادة والغرابة واللذة والجمال، فأخذ القاضي يتغنى بروعة
الرطب، وقال لصديقه البستاني: أتمنى منك أن تهديني فسيلة من هذا النوع إذا ما أعدت
إلى بغداد لأزرعها في داري، وكلما أراها تسعدني رؤيتها، وتذكرني بأيامي معك، وفعلا
جاء القاضي بعد عدة أيام إلى البستاني واخبره أن الحكام رضوا عنه، وأصدروا أمر
إعادته إلى بغداد، وأنه سيسافر غدا ويريد الفسيلة، أجلسه البستاني، وغاب عنه برهة،
ثم عاد إليه يحمل فسيلة جميلة، قدمها هدية له، القاضي من جانبه أخرج من جيبه ورقة
كتب فيها عنوان بيته وطلب من البستاني أن يزوره حينما يزور بغداد ليكون ضيفا عليه.
مرت سنين طوال ظن كل منهما أن صاحبه قد مات،
لكن القاضي فاجأ البستاني بزيارته بعد عدة سنين، وحينما رآه، وقف أمامه والغضب باد
عليه والشرر يتطاير من عينيه، وصاح به: فلان؛ لماذا فعلت بي ما فعلت، وأضعت أملي
وفرحتي وسعادتي؟ لماذا أعطيتني فسيلة فحل لا تثمر وأنا كنت أعقد الآمال عليك؟
هنا طأطأ البستاني رأسه، وقال والخجل باد على
محياه: والله يا حضرة القاضي أنا أعرف أن الفسيلة لا تثمر، وأعرف أنها فحل، ولأن
النخل لا يثمر إلا بعد عشر سنين؛ وهي مدة
طويلة، قلت في خاطري: لابد خلالها: إما أن تموت الفسيلة، أو يموت القاضي، أو أموت
أنا، ويا دار ما دخلك شر! ولكن شاءت إرادة الله أن نبقى ثلاثتنا على قيد الحياة،
وهذا الأمر لا بيدي ولا بيدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون!