((إنَّ الشعر
لا يحدد بالعروض، وهو أشمل منه، بل إنَّ العروض ليس الا طريقة من طرائق التعبير الشعري)).(ادونيس-
في قصيدة النثر- مجلة (شعر)1960:ص 75 )
هل يمكن سد الطريق
أمام أي تعبير جمالي يحاول بعض الناس ( ومنهم الأدباء) إستخدامه عند التعامل مع البعض
كتابة أو شفاهاً؟
الجواب عن مثل
هذا السؤال ينبع من الحرية المسؤولة التي هي حق لكل الناس، هذه الحرية التي تتيح لكل
إنسان أن يختار أي طريق يسلكه في التعبير عما يريد التعبير عنه ، جمالياً او قبحياً.
والجمال هو واحد
من الأمور التي يبحث الناس عن الطريقة المثلى للتعبير عنها بلا زيادات ولا نقصان بحيث
يصل الى ما يريد الوصول اليه بكل سهولة و يسر، ولكن بدقة. وهذا الجمال هو المضمون الذي
نرغب في أن نوصله الى الآخرين، ويمكن أن نطلق عليه كلمة "أدب" بصورة عامة.
وإذا كان تاريخ
القصيدة العمودية، والتي هي طريقة في التعبير ، قد إمتد الى حوالي 200 سنة في العصر
الجاهلي كما نصت عليه بعض الدراسات والبحوث . وكذلك قصيدة التفعيلة التي صار لها أكثر
من خمسين عاماً، فإن قصيدة النثر قد انتشرت سريعا في الثلاثين عاماً الماضية وهي تشق
طريقاً جديداً في التعبير عن الجمال (سلباً أو إيجاباً ) في المشاعر والأحاسيس ، هذه
الطريق بعيدة عن العروض والوزن والموسيقى، إلا إنها قريبة جداً من الإيقاع الذي تتساوى
به مع القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة.
فإذا كانت قصيدة
العمود، أو قصيدة التفعيلة، هي خطاب خاضع لقواعد الوزن الصوتي، فإن قصيدة النثر هي
خطاب خاضع لقواعد الإيقاع القرائي.
***
تتميز القصيدة
العمودية ، كما وصلتنا من العصر الجاهلي، حسب الدارسين والباحثين فيها/وعنها، بإيقاعها
الخارجي الذي يأتي من الوزن، لهذا عرّف قدامة بن جعفر الشعر بأنه"الكلام الموزون
المقفى".
اذن، هذا فقط ما
يميز الشعر عن الكلام الآخر، وهو الكلام النثري، أن تكون – أي القصيدة - موزونة ومقفاة،
وهذا ما تميز به شعر التفعيلة أيضاً الذي كتب في النصف الأول من القرن العشرين، وما
زال يكتب، والذي يمكن أن نقول عنه "إنه الكلام الموزون"حيث غادرته
"القافية" الى الأبد.
والوزن في القصيدة
العمودية يأتي من خلال بناء القصيدة نفسها عمودياً، وكانت هذه العمودية تعني المساواة
بين قسميها، بين اليمين والشمال، إذ سميت هذه العمودية و المتكونة من أبيات شعرية،
بصدر البيت وعجزه، وكان وزن الصدر مساوياً كمياً، أو يكاد أن يكون مساوياً لعجزه، لأنهما
متساويان بعدد الحروف(الساكنة والمتحركة) المشكّلة للألفاظ الشعرية، أي متساويان بالكم
الوزني.
وقد إتبع شعر التفعيلة
هذا الوزن وإبتعد عن البناء العمودي والقافية، وإتصف بمميزات أُخرى لا مجال لذكرها
هنا .
والإيقاع، الداخلي
والخارجي، يأتي بعد ذلك من خلال هذا الوزن، إضافة للقافية، المتبعان في صياغة القصيدة
العمودية، وبلا قافية لقصيدة التفعيلة.
إنها تأتي الى
المسامع والعيون كاملة وجاهزة موسيقياً ولا تحتاج لشيء آخر لكي تتفاعل معها. تدخل الآذان
بلا إستئذان بصورة مفاجئة، فتفعل في كيمياء الجسد (كيمياء أعضائه وحواسه) ما تفعل،
وفي أحيان كثيرة لاتفعل شيئاً لتوقع ما تقوله موسيقاها من قبل السامع أو القاريء.
لهذا نرى الناقد
تزفتان تودوروف في كتابه "في اصول الخطاب النقدي الجديد، تر ـ أحمد المديني، دار
الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، 1987، ص13) يفرق بين الإيقاع والوزن عند تحليل عناصر
العمل الأدبي التي يقسمها الى مجموعة من المستويات.
***
السؤال الذي يطرح
في هذا الأمر هو: هل الإيقاع هو الوزن؟ وهل يمكن صناعة موسيقى من غير الإعتماد على
مقومات وآليات وادوات صناعتها المعهودة، أي بدون وزن وقافية؟
إيقاع بعض الإشياء
هو التناغم والإرتباط الحاصل بينها والذي يدخل الى الأذن، مثل إيقاع الصمت، وإيقاع
أرض المعركة، و كذلك بين مسار الماء المستمر، وعندما يكسره صوت خارجي تجد المشاركين
فيه كل يعود الى نغمه الخاص. وإيقاع خرير الماء، إذ تختلف موسيقاه بين نزول ماء الشلال
وبين الماء المنساب الذي ينزل كقطرات، عن غير ذلك، إذن الايقاعات تختلف كالأنغام، وكذلك
في الشعر.
والإيقاع التي
تقدمه الموسيقى المسموعة في الاذن يختلف عن الإيقاع الشعري في الكثير من الأحيان، ولكنه
يسمى إيقاعاً أيضاً.
هذه الأسئلة وغيرها
تطرح على قصيدة النثر عند الحديث عنها من قبل أصحاب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة،
وأيضا من قبل دارسيها الذي يقفون على الحياد بين أنواع القصائد .
لقد بنت قصيدة
النثر نفسها على الفوضوية في كل شيء، فهي غير ممكن الإمساك بها مثل(الحيوان الشارد)،
فوضوية في الشكل، وفوضوية في الإيقاع، وفوضوية في المضمون حتى.
الوزن في القصيدة
العمودية أو قصيدة التفعيلة هو بنية مقفولة لا يمكن فتحها حتى بتعويذة "إفتح يا
سمسم"، أما الإيقاع فهو بنية مفتوحة وحرة لا تقبل القيد والإنسداد حتى بتعويذة
"أقفل يا سمسم"، والوزن في قصيدة النثر غائب، بعيد عنها، غير واجد له مكاناً،
أما الإيقاع فهو مرتبط فيها غير بعيد عنها.
العروض والقافية
في القصيدة يجلبا الوزن، والوزن يأتي بالموسيقى، إن كانت القصيدة من النوع العمودي
أو من نوع التفعيلة.
والإيقاع في قصيدة
النثر ليس هو العروض في قصيدة العمود أو التفعيلة، وليس القافية، بل هو حالة تنظيمية
بين سكونين، سكون البدء وسكون الإنتهاء، ولهذا فتناغم الحروف عند تعلقها ببعضها لتشكيل
لفظة شعرية يأتي بالإيقاع الشعري.
أما تعلق اللفظة
باللفظة، فإنها تشكل مقطعاً شعرياً موقعاً، وهو يعد إيقاعاً.
وإذا كان إيقاع
القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة يتوضح بالسماع، فإنه في قصيدة النثر لا يتوضح بالسماع،
لأنه يختلف عن ذلك، ويأتي من الكثير من عناصرها الواضحة والمخفية، كأن يكون من التكرار،
أو يكون من الفراغات المنتظمة في القصيدة(السكوت أثناء القراءة، اوالفراغات في الكتابة)،
ويكون أنواعاً وطرقاً لرسم الصور الشعرية بالكلمات، وغير ذلك.
لهذا فقصيدة النثر
لها إيقاعها الداخلي المهموس والمدرك من قبل بعض الحواس الخمسة.
الإيقاع هذا راجع
الى المتلقي وأذنه المدربة على سماع قصيدة النثر، وقبلها الى الدندنة التي تتردد في
أذن الشاعر عند نزول الوحي الشعري عليه، او عندما يلتقي بتابعه من الجن القادم من وادي
عبقر.
هذا بالنسبة الى
اللفظ والعبارة في قصيدة النثر وهما يشكلان طرفي الإيقاع فيها ، ويمكن أن يتحقق في
أمور عديدة، أهمها: ما يحدث داخل هذين الطرفين من تفاعل قوى أخرى، فإننا نجده في إيحائية
الكلام، وترابطه، وعلاقات التوازي، والتوالي، والتضاد، والتكرار، والترديد، والجناس،
والنبر، والبياض المتروك في القصيدة، وتكراره، وإيقاع الفكرة.
قصيدة النثر تؤكد
على المضمون لا الشكل ، لهذا فهي تحتاج الى صدمة تفيق السامعين أو القراء، صدمة تأتي
من خلال عوامل عديدة أهمها هو الإيقاع الذي تكونه الكثير من الأدوات السمعية والمرئية
التي أشرت لها في السطور السابقة.
***
هذه المقدمة النظرية
شبه الطويلة التي نجد لها تطبيقاً في الكثير من دواوين الشعراء التي تضم بين دفتيها
قصائد عمودية ، وقصائد تفعيلة ، وقصائد نثرية ، سيكون لها تطبيقاً من خلال المجموعة
الشعرية للشاعر صالح الطائي التي بعنوان "نوبات شعرية " وقد صدرت من دار
ليندا للطباعة والنشر والتوزيع عام 2017 ، إذ تضم هذه الأنواع الشعرية الثلاثة .
يقسم الشاعر مجموعته
الشعرية الى ثلاثة أقسام ، القسم الأول يضم القصائد الوطنية، والقسم الثاني يضم القصائد
الإجتماعية ، والقسم الثالث يضم قصائد للعشق.
الشاعر كأغلب الشعراء
يكتب الأنواع الشعرية الثلاثة ، على العكس من بعض الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر،
أو البعض الآخر الذي يكتب قصيدة التفعيلة، ولا يعرف أن يكتب بيتاً واحداً من القصيدة
العمودية .
ففي قصيدة
"يا سيِّد الوجع البهي" يتبع فيها الشاعر الإسلوب العمودي في البناء ،(رغم
انهما قصيدتان قصيرتان)، يقول :
هل الجراح الشم
يا ضيغم ... أسياف متجد يعتليها فم
تهجد الدين على
صوته .......وسار في صراطه معلم
وقد كتب أغلب قصائد
المجموعة على إسلوب قصيدة التفعيلة ، كقوله :
((رتلؿ تواشيح الهوى
فالحشد
قد رفع اللوى
والشعب هبَّ جميعه)).
و في قصيدة نثر
أخرى بعنوان "يا سجدة العمر النبيل" يقول:
((إليك يا سيدتي
يا من تنوئين بحمل
اشتياقي
يا سجدة العشق
النبيل
في محراب دنياي
يا لوعة عاشرتني
سنين
تملأ قلبي حنين)).
هذه القصائد قد
تمثـَل فيها إيقاع القصيدة العمودية المتأتي من الوزن الذي تتركه البحور الشعرية ،
والقافية. وإيقاع قصيدة التفعيلة الذي تمثل في وزنها دون القافية وأغلبها " بحور
صافية". وايقاع قصيدة النثر المتأتي من الكثير من الوسائل غير المعلنة وغير الواضحة
للأذن، بل إنها تكون مرئية الى العين، كما وضحنا ذلك في المقدمة ، لأن قصيدة النثر
هي للعين أقرب منها للاذن ، أي إنها قصيدة غير مسموعة بل إنها مقروءة.
المقدمة التنظيرية
، والمجموعة الشعرية التي أوردناها للتطبيق ، قد وضحا كيف إن الوزن والقافية يولدا
الايقاع في القصيدة العمودية ، أما الوزن لوحده فهو يولد الايقاع في قصيدة التفعيلة
فضلاً عن أمور أخرى ، وبغيرهما يمكن أن نجد طرقاً ووسائل لأن يحدث الإيقاع في قول نثري،
فيكون عندنا قصيدة نثر رائعة ومتماسكة.