13‏/08‏/2018

لقاء في صالة المطار/ قصة قصيرة بقلم طه الزرباطي






صديقي الأديب طه الزرباطي رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب فرع واسط أرسل لي هذه القصة من مجموعته القصصية "العناق" 2018، مرفقة بملاحظة جاء فيها: "لسبب اجهله اجد في القصة شيء منك" وحينما قرأتها بروية وهدوء، كتبت له: بوركت، فأنا وحقك رأيت بعض نفسي فيها، سلمت أخي العزيز

واحدٌ وثلاثون عاما وقت كاف لينسى ملامحها؟ وقت كاف كي يَمِلَّ محاولاته للضغط على الذاكرة؟!  يُقال إن من تحبهُ تنسى تفاصيله؛ لكنهُ يتذكرُها من غير تفاصيل دقيقة للوجه، لليوم يتذوقُ نكهتها، يعيش روائحها، ضحكتها تلك المغرية، واللاسعة كبرد الصباح، كما يتذكر عينيها الواسعتين؛ كثيفتي الرموش، العميقتين، اللاهبتين. لا ينسى تشابك أصابعهما، ينتاب خدر لذيذ شفتيه، يسري إلى روحه، يتحول دمعا في عينيه، تنتابه رغبة بالركض، هكذا كالمجنون، هناك لا يدري إلى أين.
في صالة المطار، كان ينتظرُ طائرته المتأخرة، الدول النائمة لا تحترم الوقت، قالها مرارا، تجوّل طويلا، ذهب وشرب قهوة، ثم ذهب وشرب شيئا مُرَّا؛ لكن مُنعشا لقلبه، هذا اليوم قلبه يخفق بقوة جبارة، ربما لحظة من لحظاته الكونية كما يسميها، هو إنسان غير عادي، له جنون لذيذ، وله حزن خاص، حزن كالموسيقى .. ذهب مرة أخرى لينتعش بمرارةِ مشروب ما، دفعة واحدة، احترق جوفه، لكن نشوة طائر يحلق في السماء، عاد إلى مقعده في صالة الانتظار، حاول أن لا يركز في أعداد المنتظرين أمامه والجالسين في أربعة صفوف من الكراسي...حاول أن يتلذذ بكركرات أطفال يلعبون، حاول أن يتذكر أطفاله... لكن ابتسامة ما شدَتْ نظرتَهُ العابرة في صف الجالسين، عادَتْ نظرتُهُ مُرتبكةً للبحثِ عن الابتسامة تلك، غاب عن وعي المكان، ابتسم ابتسامة حمقاء، عيناه جامدتان... ثم من غير إرادته سماها بأعلى صوته... قاما معا.. في منتصف المسافة بين الكراسي المتقابلة، وقفا، لم يجرؤا على قبلة اشتاقت لها روحاهما، شبك أصابعه في أصابعها، وترنح، أخذته اللي هناك حيث كرسيين وطاولة للقهوة، بيد مرتعشة قدمت قهوته... جلست... أنا جنسيتي ألمانية يا رائد... ومنذ خمسة وعشرين عاما لم ازر بغداد... ضحك، قال أنا جنسيتي بوليفية ولم ازر بغداد منذ عشرين عاما... الصدفة جمعتهما في مقعد واحد... عادا إلى العراق معا... لم يجدا بغداد... هذه ليست بغداد... ليتنا احتفظنا بصورة بغداد القديمة.... ليتنا لم نعُد... اللحظة الأخرى التي تاقا فيها للقبلة، كانا في أبي النؤاس، اقتربا... اقتربا جدا... لكنهما نسيا التقبيل، فابتعدا.. ابتعدا مسافة صديقين ....

طه الزرباطي