07‏/10‏/2018

مراثي غيلان نبش في ذاكرة السنين ... قراءة في القرطاس









بالرغم من كل المصاعب التي أحاطت حياتنا، وأثقلت كاهلنا بأحداث جسام تركت آثارها واضحة؛ ليس على سلوكنا حسب، بل وعلى وجودنا ذاته، فلونتنا بألوانها، وسحبتنا عنوة مرة إلى دنيا الخيال بحثا عن ألق حلم جميل، وأخرى إلى دنيا الخبال هربا من دنيا قاسية، بالرغم من كل ذلك، عشنا وتجاوزنا المحنة الكبيرة بل وضحكنا وفرحنا واحتفلنا وكأننا نرفل بعز نحسد عليه، يراه الآخرون ولا نشعر به.
كل تلك التراكمات الكبيرة صغيرها وكبيرها رسخت في ذاكرتنا كطعم الشهد المشوب بمرارة الحسرة، وبنت تاريخنا المثقل بالأحداث، فبتنا حينما يأخذنا الحنين إلى زمن ولى من غير رجعة، حينما تسحقنا ضغوط الحياة، حينما نشعر بالتيه بالحيرة بالضيق بالضياع بالوحدة القاسية، بالغربة في الوطن، ننبش دياجير ذاكرتنا بحثا عن لحظة فرح مرت بنا بالأمس، عن ساعة سعادة دغدغت وجداننا، عن حدث لا زال طعمه عبقا في مخيالنا، لا للمقارنة بين ماض وحاضر، إذ لا وجه للمقارنة بينهما؛ ولكن هروبا من واقع مر علقم؛ إلى ماض كنا نراه جميلا، طغت عليه الطيبة الساذجة والبساطة والانفتاح بعد أن تداخلت مكوناته رفضا للمكون الأوحد، وبحثا عن المكين الأخ والصديق والشقيق والجار، فتفتت جزئيات هوياتنا وذابت في أتون هوية اسمها العراق، لا يظهر في هيكلها أثر للجزئيات لأن الكلية كانت أعمق وأجمل وأحلى وأطيب وأكثر إنسانية من الانزواء في آفاق ضيقة، تبدو ملامحها باهتة أمام وهج أفق الإنسانية الجميل .
من هنا جاءت مراثي غيلان للأديب والإنسان الطيب الدكتور سعد الصالحي الذي يعتز بسنيته بشيعيته بعروبته بكرديته ببغداديته بمصلاويته بتكريتيته ببدرة ونهر كَلالها وجصان والطريق منها الى بغداد، ولكنه يعتز بلا حدود بعراقيته، لتعيدنا إلى تلك الأجواء، أجواء الطيبة والوحدة والمحبة والإنسانية والوطنية بأسلوب ساحر جذاب ممتع بسيط .
لقد بادر الدكتور الصالحي إلى نشر ومضات من هذا الكتاب الكترونيا في عدة مواقع، وكنت كلما أقرا واحدة منها، أشعر بحميمية افتقدها، وبنشوة أشتاق إليها، أشعر وكأن الأمس الذي عشته أشكو همومه؛ لم أكن وحيدا فيه، فقد عاشه عراقيون آخرون مثلي، لم أكن اشعر بوجودهم مع أنهم كانوا اقرب إلي من ظلي، فإذا كان أثر المأساة ضبابيا في روحي؛ فلأنهم أسهموا معي برفع بعض الحيف ولم احمله وحدي فخف علي حمله.
ومع كل مقطوعة ينشرها، كنت ألح عليه لكي ينشر هذا العمل الرائع لأنه لا يمثل سعد الصالحي وحده، ولا يمثل منطقة بعينها، ولا مكونا بذاته، وإنما يرسم صورا لواقع عشناه جميعا، ومررنا في تجاربه السعيدة والحزينة سوية مع بعض الفوارق التي لا يؤثر وجودها على الخط العام.
مراثي غيلان، ليست مراث لحقبة زمنية ولا مراث لأناس عاشوا المأساة وقاسوا مرارة وضنك العيش، بل هي مراث لتلك الحقبة التي فقدناها ولا زالت ذكراها عالقة في خيالنا، مراث لواقعنا المر الذي نعيشه، مراث لنا جميعنا لأننا لم ننجح بالحفاظ على تلك الصور الجميلة ولم ننجح في رسم صور مثلها.
مراثي غيلان أغنيات وضع كلماتها أهلنا القدماء، ولحنها الدهر القاسي، وغناها كل منا على ليلاه، فلكل واحد منا ليلى تقبع في مكان ما من الذاكرة تعيدها إلى الوجود صورة أو كلمة أو حالة تمر، ولذا ليس مستبعدا أن تتذكر أخته المثقفة زوجة الأكاديمي لهجة (فرحة) المعيدية في تسمية الأشياء فتردد كلمة: (بعارين... بعارين) بجذل وفرح غامر وكأنها طفلة ترى البعير أول مرة .
أما البطل الذي جازف بجرأة قل نظيرها للحديث عن أدق الأسرار خصوصية وأكثر التفاصيل كتمانا؛ فإنه كان يشعر بشمولية تشتت التركيز ربما لأنه عاش بأكثر من مكان أسماهن (حاراتي المندثرة) تتوزع بين بدرة وأربيل وكنعان وبعقوبة وبغداد وتكريت، لدرجة انه بات لا يقوى على تجميع صورة ما لطفولته. ولكنه مع ذلك نجح في لم شتات ما تذكر، وسطره على ورق ينتظر انفراج الأزمات لكي يتحول إلى كتاب مقروء يتاح للجميع معرفة كنهه والاطلاع على طلاسمه .
لقد تفضل عليَّ الدكتور سعد الصالحي وفاء منه، فأرسل لي نسخة من منجزه على عنواني البريدي في الانترنيت محبة بي، وربما لكي لا أبقى ألح عليه بضرورة الاستعجال بطبع الكتاب، فوجود نسخة على حاسبتي يصبرني في انتظار صدوره، وقد قرأته مرات، وفي كل مرة أشعر بسعادة غريبة وكأني أقرا نتفا من عمري الذي مضى، أو كأن كاتبا حول بعض ما عشته، بعض ما عشناه جميعنا إلى عمل تلفزيوني، مثله ممثلون لا نعرفهم ولكننا نعرف أنهم يتحدثون عن قصصنا، يروون ضحكاتنا ونشيج بكائنا وهذرنا وحكمنا، ويرسمون خطوط حزننا.
هذه ليست قراءة لهذا المنجز الكبير، ولا عملية نقد أدبي له؛ بقدر كونها تأملات وجدانية، أعبر من خلالها عن المشاعر التي انتابتني بعد قراءة العمل الفريد من نوعه، وسأكتفي بهذا، منتظرا صدور الكتاب رسميا لتكون لي وقفة طويلة معه .