ليس فينا من هو غير مسؤول عن أصغر آهة
تصدر من قلب فقير
إن وجود التعارض العميق والكبير بين
الموضوعية والذاتية، أي بين الفردانية العامة والانتماء الحزبي ـ لو صح التعبير ـ
وبمعنى أوضح بين الحيادية والتجنيس الحزبي؛ الذي يضع المثقف المنتمي للتنظيمات
الحزبية بين حيطان عالية تحجب عنه رؤية الكون الفسيح وكل ما يدور خارج تلك
الأسوار، تسببَ باستمرار في عرقلة تطور علم الاجتماع، مما حدا بعالم الاجتماع
الفرنسي الكبير "پيير بورديو" وهو أحد أبرز المراجع العالمية في علم
الاجتماع المعاصر إلى وضع مصطلح "الهابيتوس" الذي قصد به نسق
الاستعدادات المستمرة والقابلة للتحويل والنقل، بين (مستعدة للاشتغال) أي الاشتغال
الحر غير المقيد، و(منظمة لممارسات وتمثيلات) التي تتحرك وفقا للإشعارات التي
تستلمها من قياداتها الحزبية، وذلك في محاولة منه لتجاوز التعارض.
كان بورديو يرى ان الواقع الاجتماعي هو
نتاج العلاقات الاجتماعية العامة، التي تتحول عادة وغالبا إلى قوى تفرض نفسها على
المنتمين، فتضعهم خارج إرادتهم وبعيدا عن
وعيهم، وتحدد سلوكهم واستجاباتهم تبعا لمتطلبات القيادة، وأن هذا الانحراف يتسبب
في ضياع الكثير من الجهد العلمي. أما غير المنتمي فإن شعورة بالخوف أو التهديد
يتسبب له هو الآخر بتشتت الرؤية، فيختار بالتالي عدم الإفصاح عما كان يريد أن
يقوله أو عما يفكر به! وبالتالي يحتاجان كلاهما إلى منقذ، الأول من خلال تحييده،
والثاني من خلال إيجاد ملاذ آمن له يحرر قدراته.
عادة يمكن ترجمة رؤية بورديو على أنها
دعوة إلى توفير ملاذ ثقافي يحمي المثقف اللامنتمي المستقل، الذي هو على خلاف
المنتمي الذي يدافع عنه حزبه، ويوفر له الحماية تجاه ضغوطات المجتمع، ربما بسبب
الآراء الحادة التي قد يثيرها اللامنتمي فتسبب القلق للسياسيين أو الحكام. وهذا
يعني أن بورنيو حاول من خلال دعوته لخلق الملاذ الثقافي التأكيد على قوى الاصل
الذاتية الفاعلة في الوسط الاجتماعي دون حاجة إلى دعم حزبي يمكنها من الفعل، أي
أنه دعا إلى تحييد المثقف فكريا لكي لا تأخذ نتاجاته الثقافية اتجاها واحدا، وإنما
تتحول إلى إشعاع دائري يصل إلى جميع النقاط، وهو مشروع كبير يهدف إلى التقريب بين
الحتمية الاجتماعية من جهة والفردانية بكل خصوصياتها من جهة أخرى، وأعتقد أننا
اللامنتمين والكثير من المثقفين المنتمين بحاجة ماسة اليوم إلى مثل هذا الملاذ،
لأنه سيسهم في تحرير العقل، وفك عقاله، وإعطائه دفعة من القوة التي يحتاج إليها،
لكي يتحول إلى فعل يحسب لتأثيره ألف حساب بدل أن يبقى حبيس الخوف من الانتقام!.
وفي الختام أنا لا أبغي من وراء هذا
الموضوع منع الناس من الانتماء إلى الأحزاب والتيارات والجمعيات والتجمعات
السياسية، فذلك حقهم الدستوري، ولكني اتمنى أن أرى الكثير من المثقفين المحايدين
الأحرار، لأن انتمائهم الحزبي يستهلك قواهم الفكرية، ويحرم المجتمع من الإفادة من
خبراتهم المتراكمة التي يحتاج إليها.