19‏/09‏/2019

منهجية الدكتور فاضل جابر في نقل المعرفة










يكاد التخصص العلمي أن يكون حلقة الوصل بين الأكاديمي والمجتمع، لكن جل التخصصات التي نعرفها تبدو بعيدة عن سجال الواقع، ليس لأنها تتخصص في علوم لا يحتاج المجتمع إلى التحدث عنها، مثل تخصصات انشطار الذرة والنانو وغيرها من العلوم البحتة، وإنما لأن الأعم الأغلب من الأكاديميين أنفسهم نأو بأنفسهم عن مشاطرة المجتمع ما يعرفون، واحتفظوا بنتائج دراستهم لأنفسهم، واكتفوا بكتابة البحوث التخصصية ونشرها في المجلات التخصصية المحكمة؛ التي لا يعرف المجتمع عنها شيئا لأنها لا تغادر أجواء الجامعات ومكتباتها عادة.
قبالة هذا العدد الكبير، هناك قلة منهم حاولت تطويع نتائج ما توصلت إليه لكي تحوله إلى مغنم للمجتمع، يستقي منه حكما وعبرا وقصصا وأمثلة وحكايات وإرشادات. ومن هذه القلة البروفسور فاضل جابر ضاحي الذي بحث في أبعاد الزواج السياسي في المجتمع الإسلامي في عصر المماليك، من خلال كتابه (الزواج السياسي في عصر المماليك)، ناقلا صورة واضحة عن ذلك المجتمع وعلاقاته الاجتماعية، وبعدها غاص في بحور الرأي العام لذلك العصر من خلال كتاب أسماه (الرأي العام في عصر المماليك)، بعد ذلك اهتم بالأخبار الغريبة لذلك العصر المضطرب، فكتب (أغرب الأخبار في ضياع الحقائق والكتب والآثار). ولأن الولائم تعكس وجها من وجوه المجتمع، لا تكتمل دراسته إلا من خلال معرفة أبعاد هذا الوجه والاطلاع على أسراره، وضع الدكتور فاضل كتابه( الولائم في دولة المماليك) ليتحدث من خلاله عن توظيف المماليك للولائم للتخلص من المنافسين وقتلهم بلا رحمة. ومن الأمور التي اهتم بها الدكتور فاضل جابر كان موضوع النساء القاتلات الذي وضع له كتابا بنفس العنوان، تحدث فيه عن دور المرأة في عمليات الاغتيال ولاسيما الاغتيال السياسي والتنافسي.
فضلا عن ذلك، وإسهاما منه في نشر المعرفة، ومساعدة الطالب على الإلمام بالأبعاد الحقيقية والصحيحة لمنهج البحث التاريخي، طوع الدكتور فاضل جابر تخصصه الأكاديمي في تدريس منهج البحث التاريخي، فوضع كتابا ارشاديا تعليميا تثقيفيا يحتاجه طلاب البكالوريوس وطلاب الدراسات العليا والباحثين والكتاب، وهو بعنوان (محاضرات في منهج البحث التاريخي)، وهو كتاب قيمٌ، أخضعه الدكتور للتطوير والتنقيح والزيادة والإضافة على مدى ست طبعات متتالية، ليتحول إلى كتاب منهجي معتمد في كثير من الجامعات العراقية والعربية الأخرى.
ولأن الفساد المالي والإداري بات اليوم حديث الساعة، أراد الدكتور تتبع منهجيته التاريخية ليوضح للمجتمع أن روح الإنسان المشاكسة مجبولة على المخالفة، متى ما وجدت ظرفا مناسبا يتيح لها التحرك دون قيود أو خوف، فكتب عن (الفساد الإداري ومحاولات الإصلاح في عصر المماليك).
وفي آفاق أخرى، كانت عين الدكتور فاضل ترصد محطات الحياة لتقتبس منها شذرات ترصِّع بها واجهة المعرفة، لكي تتاح المعلومة للجميع في المجتمع، ولذا تراه يرصد حالة امتناع الكثير من الكتاب والمؤلفين عن الزواج، لأن العلم الذي اشتغلوا فيه، أخذهم من دنياهم إلى دنيا أخرى، فوضع كتابا بعنوان( العزوف عن الزواج بين المؤلفين في العصور الإسلامية).
وأنا واقعا بحكم صداقتي المتينة مع الأخ العزيز الدكتور فاضل جابر ضاحي كنت محظوظا، فحصلت على جل مؤلفاته التي كان آخرها كتابه الذي احتفينا به في البيت الثقافي الواسطي، وكان عنوانه (الميزان في التواضع والتكبر عند المؤلفين والأعيان دراسة في التاريخ الاجتماعي خلال العصور الإسلامية) هذا الكتاب الذي جاء مكملا لمنهجية الدكتور في تتبع حلقات اجتماعية شائعة في زمان ومكان محدد، ومن ثم دراستها وتفكيها، والغوص في أعماقها، لتحويلها من حالة السكون إلى حالة الحركة المنتجة داخل صالات الحياة، في مجتمع يحتاج إلى الحركة، لكي يهتم بشؤونه أكثر مما هو عليه الآن. هذا الكتاب درسٌ في الأخلاق يحتاجه الجميع، ولاسيما الشباب والناشئة.
 ولو لم يكتب الدكتور فاضل جابر إلا هذه النخبة الفكرية الرائعة لكان متفضلا على المجتمع وعلى طلابه، فكيف وهو يتحدى المصاعب ليقتحم لجج بحور التاريخ منقبا ومنقرا عن المعلومة ليحولها إلى فائدة ومتعة؟
إن منهجية الأستاذ الدكتور فاضل جابر ضاحي هي محاولة لحث الأساتيذ والتدريسيين على الكتابة والتأليف في مجالات تخصصهم، إسهاما منهم في نشر المعرفة في المجتمع، وأعتقد أنها أثمرت خيرا عميما.