من البديهيات أن العصر الجاهلي لم يُسمى بهذا
الاسم من الجهل ضد العلم وإنما من الجهل ضد الحلم، فهو مجتمع لم تكن علومه بأقل من
علوم المجتمعات الأخرى المحيطة به، بل حتى في مسائل التعبد كانت عباداتهم قريبة من
عبادة تلك المجتمعات التي لم يخل بعضها من وجود عبادة الأصنام. من هنا كانت لعرب
الجاهلية الكثير من الأصنام والأوثان والنصب،
التي اتخذوها أربابا يعبدونها من دون الله، أو نصبوها لتقربهم إلى الله درجة، أو لتشفع لهم
عنده حتى قيل: إنه لم يكن أحد من قريش بمكة؛ إلا وفي بيته صنم يعظمه ويعبده
ويقدسه، يمسحه إذا خرج، ويمسحه إذا عاد يتبرك به، وكانت الأصنام موجودة حتى في
مضارب البدو، حيث كان يُطاف بها في مكة، فيشتريها البدو ويأخذونها إلى مضاربهم.
ويبدو من ظاهر الروايات أن العرب حتى في
عبادة الأصنام كانوا مقلدين لغيرهم غير مبدعين؛ باستثناء صناعة الأرباب من التمر،
وأكلها عند المجاعة مثلما قال الشاعر: "أكلت تميم ربها زمن التقحم
والمجاعة"، فالعرب مثلما يتضح مما أورده البخاري عن ابن جريج، عن
عطاء، عن ابن عباس أنهم أخذوا عبادة الأوثان التي كانت في قوم نوح، صارت فيهم. أي أن العرب أخذوها عن قوم نوح!
وقد تكون للعرب ـ في موضوع عبادة الأصنام ـ
بعض الفضائل، منها فضيلة التمييز بينها تبعا لهيئتها وشكلها والمادة المصنوعة منها،
حيث اختلفت تسميات تلك الأرباب الكاذبة عندهم تبعا للهيئة والشكل:
فالصنم: هو ما كان على شكل إنسان، ومصنوعا من
المعدن أو الخشب.
والوثن: هو ما كان على شكل إنسان، ومصنوعا من
الحجر.
أما النصب: فهو ما لم يُعْطَ صورة انسان، ولا
شكلا محددا، سواء كان منحوتا من الصخر أم غيره من المواد الأخرى.
ومنها أيضا فضيلة التخصيص والتعميم، حيث كان
لبعض أوثانهم مواضع عامة توضع بها ليعبدها الجميع من كل القبائل؛ مثل (هُبل) الذي كان
في الكعبة، والذي قيل: إن عمرو بن لحي جلبه من منطقة هيت في العراق، أول صنم وضع
حول الكعبة كما قال اليعقوبي في تاريخه. وكان هُبل على هيئة إنسان من عقيق أحمر
مكسور الذراع، فقام العرب بعد ذلك بصناعة ذراع له من الذهب الخالص. ومثله صنمي (إساف) و(نائلة)
اللذين قيل: إنهما رجل وامرأة من جرهم، زنيا في الكعبة، فمُسخا حجرين، ووضعا على
الصفا والمروة ـ في الأقل ـ هذا ما يتضح من حديث للسيدة أم المؤمنين عائشة، أورده
ابن هشام في سيرته، قالت: "ما زلنا نسمع أن إسافاً ونائلة كانا رجلاً وامرأة
من جرهم أحدثا في الكعبة، فمسخهما الله تعالى حجرين". وكانت إساف موضوعة على جبل الصفا، ووضعت نائلة
على جبل المروة.
وأما (اللات) فكانت في الطائف، وهي حسب رواية
جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام": كانت صخرة بيضاء مربعة، بنت ثقيف عليها بيتاً
يحجُّون إليه، وكانت سِدانته لآل العاص ابن أبي يسار، وتحت الصخرة كانت هناك حفرة تُحفظ
فيها النذور التي تقدم للنصب, هدمها المغيرة مع النصب، وسلم أموال وحاجيات النذور
الموجودة في الحفرة إلى أبي سفيان امتثالاً لأمر الرسول(صلى الله عليه وآله).
و(العزى) كانت مثلما ورد
في المفصل في تاريخ العرب نخلات في الطريق بين مكة والعراق، بنوا عليها بيتاً
يطوفون حوله ويسمعون صوت هواتف الجان، وكان سدنتها من بني شيبان من سليم، وقد
اختلفت الأقوال في هيئتها، فمنهم من قال: إنها صخرة سُميت بذلك لأن دماء النساك
كانت تمنى عندها (أي تراق), ومنهم من قال: إنها صنم نُصب على ساحل البحر, وذهب قسم
آخر إلى أنه صنم كان في الكعبة مع بقية الأصنام.
أما (مناة) فهي صخرة لهذيل
وخزاعة، كانت منصوبةً بقديد على ساحِلِ البحر الأحمر بين مكة والمدينة.
وقد ورد ذكر
اللات والعزى ومناة في القرآن الكريم في قوله تعالى من سورة النجم: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى *
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ
إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ ذلك لأنهم كانوا يدَّعون بأنهن بنات الله تعالى يشفعن لهم
عنده.
فضلا عن ذلك كانت هنالك أصنام مخصصة لعشائر
وقبائل وبيوت وليس لعامة الناس، فـ(ذي الكفين) و(ذي خلصة) كانا لقبيلة دوس اليمنية
وهي قبيلة أبي هريرة، و(سواع) كان لهذيل، (يغوث) كان لطي
وجرش من مذحج، وقيل: كانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، و(يعوق)
كان لهمدان، و(نسر) كان لذي الكلاع بحمير، و(سعد) كان لبني ملكان من بني كنانة، و(ود) كان لعوف
بن عذرة من قضاعة، وقيل: كانت لكلب بدومة الجندل. و(رضى) أو رضاء
كان لبني ربيعة بن كعب.
وقد أورد فالقرآن
الكريم أسماء بعضها، منه قوله تعالى في سورة نوح: ﴿وَقَالُوا
لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ وورد اسم (بعل) في قوله تعالى في سورة الصافات: ﴿أتدعون بعلا
وتذرون أحسن الخالقين﴾. أما الأوثان الخاصة فهي تلك الأوثان التي كانوا يحتفظون
بها في بيوتهم وهي باشكال متنوعة وبعضها مصنوع من التمر يأكلونه عند جوعهم!
من هنا، من
هذه الكثرة وتعدد الولاءات، جاءت محبة العرب للأصنام وتعلقهم بها وعدم تخليهم عنها
إلى يومنا الراهن، حيث اتخذت كل جماعة منهم وثنا، إن كانوا لا يعبدونه، فهم
يقدسونه، ويتقربون به مرة إلى الدنيا، وأخرى إلى الله، إيمانا منهم بأن الأصنام
تحقق المعجزات حتى في آخر الزمان.