08‏/05‏/2020

في الذكرى التاسعة لرحيل الشاعر الفيلسوف تريكو صكر المراني






هذا الموضوع بقلم الأستاذ عماد حياوي المبارك/ عضو الرابطة المندائية للثقافة والفنون

كان خالي تريكو يقول عن قناعة: لو اعترضتْ دربي نملة، لغيّرتُ اتجاه مسيري تاركا لها ممارسة حقها لتعيش
استماع واستمتاع
كان الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد يقوم بزيارة لبيت قريبه، الشاعر المفكر وعالم اللغة تريكو صكر المراني، لم يكن أحد منهما بفصاحته أقل شأناً من الآخر، بل الاثنان كانا فطحلين بقرض الشعر، وكل منهما حقاً قاموس باللغة العربية، آدابها ونحوها ومفرداتها ومعانيها. الشيء الوحيد الذي لا يجمعهما انهما لا يتفقان حول نظم الشعر.
بداية الثمانينيات كنتُ قد تواجدتُ في مجلس ضمهما في بيت خالي تريكو بالعامرية، وأتذكر أنني بقيتُ صامتاً لا أتجرأ على المشاركة؛ لأنني على يقين بأن الحديث كان أعلى من مستوى معلوماتي بكثير. اختلف الاثنان بسبب رفض خالي القطعي إقحام الشعر بالسياسة، وقال بإن قصيدة تُخلد شخصاً معيناً في بلداننا، تصبح كالتمثال الذي يُنحت والصورة التي تُرسم له؛ ستزول ويلفظها الناس بمجرد أن يتغير النظام، لكن كان لعبد الرزاق رأيا آخر، بأن الشاعر هو ابن المجتمع، يتفاعل معه ويكتب تاريخه بأشعاره.
ومع أنهما كانا صديقين وقريبين، لكن رأي خالي كان حادا وقاسيا وجريئا أمامه، ولم يذهب لمجرد الطرح، إنما تجاه بناء القصيدة الشعرية بعدم اعترافه بتاتاً بالشعر الحُر، أو حتى بتسميته شعراً، فلو لم تضممه قصيدة عربية عمودية موزونة مقفاة يستوفي بنائها كافة الشروط الصارمة، ما هو بشعر، وهو أمر لم يختلف عبد الرزاق عليه كثيراً، لكنه لم يكن بذلك التشدد والتصلب، بدليل أنه قد نظم أبيات حرّة وأشعار بسيطة قابلة للتلحين موجهة للطفل.
بقي الطرفان مصمِّمَين كلٌّ على موقفه، فضَّ مجلس والتأم آخر، اجتمعا ولم يجمعا ولم يتوصلا طوال فترة متابعتي لهما على اتفاق، كان عبد الرزاق يتجنب في أحيان كثيرة الخوض بالنقاش لأن الهوة بينهما كانت كبيرة، كان تريكو يرفض مجرد تسمية (الشعر الحُر) بالشعر، ويقول بإنه مجرد سَجْعْ وكلام موزون، بينما يصمم عبد الرزاق على أن الشعر الحُر وارد بكل اللغات وضرب من الشعر لكنه ليس بالقصيدة العمودية. هكذا يستمر السجال في وقت نكون  نحن المستمعين مستمتعين بمجلسهما، نغرق في بحور الشعر دون أن يتجرأ أحدنا وينبس بكلمة واحدة.
الشعر العربي إذاً هو القصيدة العربية العمودية المقيدة ببحور الشعر الستة عشر التي جاء بها لسان العرب. يقول تريكو، على من يسمي نفسه شاعراً، عليه أولاً أن يُجيد نظم القصيدة العمودية المقفاة، ولا شعر في لغة العرب سوى ذلك دون نقاش، بينما كان لعبد الرزاق رأي يقبل النقاش، لأن الشعر هو كلام الناس يُكتب ليتم تبادله فيما بينهم بشكل سلس ومريح، القصيدة العربية تصل في السابق بسهولة لأسماع الناس وتدخل في قلوبهم ووجدانهم فيحفظونها على ظهر قلب لأنها باختصار لغة الشارع التي كانوا يتداولونها.
× × ×
يمكننا اليوم الوصول لأية شخصية من خلال محركات البحث، لكن لا يمكن لتلك المحركات مهما كثرت أن تكشف خصوصيات وخبايا تلك الشخصيات، لذا يتوجب على من له معلومة مباشرة إظهارها وتوثيقها للأجيال القادمة. كنتُ قد كتبتُ مقالاً، في ذكرى رحيل الخال تريكو صكر المراني الذي لم ينصفه في حياته الزمن ولا أقلام المعنيين، بسبب أنه فضل أن يعيش في الظل.
بتاريخ 10/5/2011 الساعة العاشرة ليلاً رحل عنا، بمنطقة المزة بدمشق، وهو بسن الستة والثمانين، نتيجة تخثر في الدماغ الأب، المربي، النحات، المحامي، المترجم، الرسام، الشاعر، النقاش والخطاط أبو ضرغام. ليتنا نستطيع أن ننصف هذا الإنسان العبقري، الأب الحنون الذي غمر عائلته بحنينه وطيبته وعطفه وعدالته وإنصافه، ترك لنا إرثاً يضاهي شعر المعري والمتنبي في الفلسفة والحكمة، يندر لشاعر عربي في هذا الزمان أن يكتب مثيلاً له مهما كانت فصاحته.
كان طبع ديوانه الذي قامت به عائلته وبتمويل ذاتي من أبنائه فقط، والحملة التي نشطنا بها للتعريف به على نطاق العالم العربي، والاهتمام الخاص به؛ قد أسعدني وأراحني كثيرا، كيلا تذهب أشعاره أو تُستغل قبل توثيقها ونشرها، ولكوني ابن المرحومة أُخته الوحيدة، فقد عدت لأيام جمعتني به عن قرب كإنسان، وأجدُ أنه من واجبي سرد بعض مما قصَّتهُ عليّ والدتي بحكم صداقتها معه وعلاقتهما المميزة أيام شبابهما.
كان تريكو (بزر الكعدة) ومدللا  لعائلة من أربعة أبناء، توفي والدهم صكر عبد النبي مرّان وهم صغاراً، أمهم مالية عمارة أخت الشاب حنظل الذي يعتبر من أول شهداء العراق، وابنة المرأة المندائية الشجاعة الخالدة فجر المباركي التي طافت في ذلك الزمان البلدان والتقت ملوك العرب في سبيل الوصول لابنها الوحيد المفقود حنظل. لتريكو أخَوَين أكبر منه، شاكر وستار، فنانان بمهارات الصياغة والنقش على الفضّة، استقلا بحياتهما مبكرا وتركا مسؤولية تربية تريكو على عاتق أخته ملكة التي تكبره ببضع سنوات، كونها موظفة، فكانت على قدر كبير من المسؤولية.
 انتقلت به بداية الأربعينيات من العمارة لبغداد، مضحية بذكرياتها وبأقرب صديقاتها، الأديبة الراحلة ناجية غافل المراني، من أجل دراسة الحقوق مثلما تمنى. كان المرحوم شابا وسيما رقيقا مرهف الإحساس، أنيق المظهر، يصاحب أولاد الذوات، يبحث عن صيحات الموضة لدى دور الأزياء العالمية، مثقفا يرتاد دور السينما بحثا عن أحدث الأفلام العالمية، محمِّلا بذلك عبئا ماديا إضافيا على أخته الذي أدته بطيب خاطر. بعد زواجها منتصف الخمسينيات، حافظ على علاقة طيبة بها وبزوجها الذي هو ابي.
أهم مفصل أدار دفة حياته خلال إحدى صفحات تاريخ العراق الدموي، كان بالتحديد بمنطقة العلاوي، أمام سينما بغداد (أُزرملي) خلال الانقلاب على الحكم الملكي، فرأى الغوغاء يربطون جثة الوصي عبد الإله بخلفية سيارة، متباهين بإنجازهم البشع الوقح هذا، كان ذلك أمام عين هذا الإنسان الوديع الذي لم يؤذِ مخلوقاً حتى لو كان حشرة، وهو الرجل النباتي في مأكله وملبسه منذ ولادته حتى يوم رحيله.  أطاح به المشهد، دارت به أخته بين الأطباء، اعتكف بعيدا عن هذا وذاك، غرق بغرفته بين الكتب العربية والأجنبية، كُتب ليست بالسياسة ولا بالدين، فلسفه وحكمة وأدب ما وراء الطبيعة، عشرات القواميس والدواوين لفطاحل الأدب العربي والعالمي، أكداس كانت طعامه ووسادة منامه، وما ألذ الغذاء لو إنه  للروح والنفس.
ما كانت تستغرق عملية اِلتهام مادةٍ في كتاب وهضمها من قِبله إلا يوما واحدا أو يومين، ولنقس كم سيفترس منها باحثا في بطونها عن إجابة واحدة... (من أين لبني البشر هذه القسوة وهذه البشاعة؟ لأجل ماذا تجري الدماء ولماذا النفس البشرية رخيصة لدى البعض؟). بَحثَ سنين، تجلتْ معاناته هذه مناجاة وحكمة في أشعاره، وجعلته لا يميل للاختلاط بالناس، ولا يعتبُ في ذلك على أحد، ولا يحب أن يُعتب عليه . قضى حياته في الجد والعمل، وممارسة مهارته في اللغة وفي الترجمة. أتذكر يوماً ناديت، على سبيل المزاح، على ابنه زيدون بـ (زيتون)، فقال بهدوئه المعتاد: (لا خالي اسم صاحبك زيدون) وشدد على الدال، فتجاهلتُ كلامه وكررت خطئي لأستفزه: (نعم زيتون، زيتون اسم جميل)، فما كان منه إلا أن طلب أن أُغادر مجلسه قائلاً: (ابن اختي لا يصلح أن يستمع للشعر)، فلا مجال لديه في التلاعب بألفاظ اللغة أو معانيها، كل كلمة تأخذ موقعها دون تحريف، رافضاً وساطات الجميع وبضمنهم ولده زيتون، عفواً... زيدون!
أما أولاده، فكلهم ذوو خلق وأدب جم وعلم وفن، استحوذ ابنه البكر (ضرغام) على حصة الضرغام من أشعاره بسبب اغترابه المبكر كرسام محترف يلف البلدان، حيث يمكنه بحرفية كبيرة رسم البورتريه بأقلام الفحم بدقائق ليُظهر الملامح وكأنها صورة فوتوغرافية. ابنه ضياء مهندس، كامل مهندس، زيدون وأكرم رسامان وموسيقيان كلاسيكيان متميزان بصناعة آلة العود بجودة عالية. الجميع على خُطى أبيهم لا يؤمنون بالتجديد.
حتى يوم رحيله، أوفى له أولاده وبناته كل من موقعه وظروفه، فمثلاً ابنته الطيبة ذات القلب الكبير ماري، لما سمعت أنه يصارع المرض في دمشق، استغنت عن عملها كمترجمة بشركه بدبي وتركت المال والعمل وعادت لسوريا كي تكون بجانبه مع أختها الأصغر نسرين التي فدت نفسها لوالديها والعناية بهما، وهي التي كانت قد تعرضت للاختطاف من قبل عصابة مأجورة ببغداد، فتدبر الإخوان مبلغ الفدية ليخلوا سبيلها، هذا الحادث هو الذي دفع الخال لقبول الهجرة والسفر والغربة مكرهاً، لأنه كان شديد التمسك بوطنه العراق.
يؤمن تريكو بالله خالقنا بشكل مطلق، لكنه يقول بإن الأديان كلها من صنع البشر. من يَبحث في شخصيته، سيبذل الجهد الجهيد ليتمكن من الوفاء لها، وقد لا أكون مبالغاً لو أقول بإنه لو وجد ذكي واحد من بين كل عشرة أشخاص، ومتميز بين مائة، ونابغة من كل ألف، فهناك عبقري واحد في كل مليون إنسان، بالتأكيد هو تريكو، لماذا؟ لأنه يستطيع حفظ أبيات الشعر بعد قراءة لمرة واحدة، يرتجل الشعر، يحفظ مائة ديوان شعر، يمكنه الترجمة الفورية بفصاحة، سرد الكلام والشعر في الحكمة والفلسفة والتاريخ دون تعثر، مثاله الأعلى الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري، غالبية أشعاره بالحكمة والفلسفة، شديد الاعتداد بنفسه، لم يتطرق لمديح أي كان سوى أولاده، وبعض الأبيات يذكر فيها قطتهم المدللة وإحدى صديقات ابنته الكبرى هيلين.
قبل وفاته بسويعات، كان يغمض عينيه وهو يستمع لمقطع من فيلم أجنبي قديم يُعرض في التلفاز، قال إنه يتذكر ممثلو هذا الفيلم متعرفاً عليهم من خلال أصواتهم، فاسماهم باسمائهم، مع أنه لم يرَ الفيلم منذ عشرات السنين.
من الأمور التي تجدر الإشارة إليها، أنه كتب اول أبيات الشعر وهو طالباً، لكن معظم أشعاره كانت في فترة السبعينيات وخلال عدة سنوات فقط، حين كان في العقد الرابع والخامس، تركها لنا مكتوبة على صفحات بخطه مع هوامش كافية لمعاني الكلمات وتفسيرات لبعض الأبيات. قام أولاده بعد رحيله باصدارها بديوان يحمل اسم (المراني). كان بحق ديوان مهيب يتناسب وما تضمنه، ورَد جميل له، وواجب والتزام تجاه تراثنا الشعري العربي.
سافر ضياء بعد رحيل أبيه إلى دبي، قام بعناية فائقة بطبعه رسمياً بحرفية عالية بعد جهدٍ جهيد، وهو الأمر الذي تطلب الوقوف عند كل صفحة من مسوداته التي زادت على الألف صفحة، والتي خلت نهائياً من أية أخطاء املائية أو نحوية، فحقق امنية كانت تراونا جميعاً امتنع عنها أثناء حياته لأسباب خاصة قد تتعلق بطروحاته، لكنه أذنَ لأولاده بطبعه بعد رحيله. في نفس الوقت، فقد فجر عمل ضياء الدؤوب ومتابعته الجادة كل سطر يُطبع وكل كلمة، موهبة قرض الشعر بمهارة عالية، بعد اتقانه قواعد اللغة وعلوم الصرف وعروض الشعر، وهو اليوم شاعراً مرموقاً على خطى أبيه، كما قال القاص الأديب نشأت المندوي... (هذا الضياء من ذلك التريك).
كلمة رثاء قالها أخي صلاح بحق الراحل... (نم قرير العين أيها الرجل الطيب الزاهد والجبل الأشم، ففيك يتجلى معنى النقاء، ليرحمك الله ويسكنك فسيح جناته، وداعاً لجسدك الكريم ولتبقَ روحك فينا).
-----------------------
الكاتبة ايمان البستاني كتبت على صفحة الكاردينيا :
لو كان الشعر رجلاً .....لكان تريكو صكر المرّاني
وكانت هذه الابيات افتتاحية لمقالتها .
سوف اختصر بعض ما كتبته ايمان البستاني عنه :
في مفتتح الديوان كلماته المكتوبة كأهداء بخط يده الكريمة ( رحمه الله )  وهن ثلاث كلمات فقط حيث يقول (الى الأجيال بعدي) كتبها ببغداد في ٤- ٤ - ١٩٧٨ م .....كأنه ترك روحه فيها و تزن اكثر من ألاف الأبيات.
يحكي في مقدمة ديوانه أن أوّل قصيدة له نظمها سنة ١٩٤٣ , ولم يبلغ حينذاك الثامنة عشرة من عمره , و يذكر منها هذين البيتين في الفخر والتحدي
وأضمرتُمْ لَي الشَرْا      فكان الشرُّ بي خَيْرَا
و قيَّدْتمْ سَرَاحِيني        فكُنتُ اللَّيْثَ والصَّقْرَا
ثم قفز قفزة عظيمة في الشعر في أوّل سنة ١٩٧٠ , حين نظم قصيدته ( مناجاة النفس) و مطلعها
تَقَدَّمْ ففي عُمْرِ الزَّمَانِ تَقَدُّمُ        فَأنْتَ الَّذي تَبني وَغَيْرُكَ يَهْدِمُ
وعن المرأة كتب:
فإلى النَّسَاء تَحِيَّة ُ مَنْ مُدنفً          يَرْجُو  لَهُنَّ الخْيرَ كالشَجَرَاتِ
هُنَّ الجذُوُرُ علَى المَدَى و جُذُوعُهَا     نَحْنُ الرَّجَالُ عَلى خُطَى دَرَجَاتِ
وفُرُوعُهَا جِيلٍ جَديدُ نَاهِضُ           مَنْ أنْجُمٍ زُهْرٍ و مِنْ زَهَرَاتِ
سَلِمَتْ فُرُوعُ بعدكُنَّ و بَعْدنَا          و سَما بِها شَجَرُ على بَذَراتِ
حتى في تقربه لله الواحد الأحد بزهده و صلاته و دعائه يكشف لنا عن مكنونات نفسه النقية الصادقة بلا تزلف ولا  رياء .......
آمنت بالله إلهاماً فقيضَ لي             قريحةً مزجت شعر الهدى بدمي
وقد بدأت اجيد النظم في شعري       ولم أكن ابلغ العشرين في حلمي
جعلت كل بحور الشعر بحر هدى        يفيض بالنصح والارشاد كالديم
انا الذي تُبصر الاجيال موهبتي          ونستقي أعظم الاقلام من قلمي

من يغترف من ينابيع الهدى فطناً            فلا يعود على ما نال بالندم