قد تكون مقولة "الإنسان حيوان اجتماعي" أو " الإنسان
اجتماعي بطبعه" إحدى أكبر الأدلة على دور الدين في تنمية ثقافة الاجتماع لدى
البشر، فالإنسان هذا الكائن الفريد والغريب يتباهى بملكة الحب الناضج الموزون؛ على
خلاف الحيوان الذي يحب فطريا غريزيا، ويقف حبه عند حدود معينة، لتظهر عوضا عنه روح
الافتراس والتوحش تتحكم بالقرار، ولاسيما في ساعات الغضب والخوف والمنافسة والجوع.
وإنْ كان من النادر أن يأكل الإنسان أحد أولاده، فالحيوان مستعد غريزيا في حالات
الجوع والشبق لارتكاب هذه الجريمة.
أما الإنسان فهو حينما أدرك أنه مخلوق، وعرف الخالق، وأيقن من عظيم قوته،
فقد احترم القوى الغيبية المطلقة ليتجنب غضبها ولو بحدود، فهو مع إيمانه بعظمة هذه
القوة، ورضوخه الشديد لها، وتمسكه ظاهرا بتعاليمها، وطلبه الشديد لبركاتها سواء عن
طريق العبادات أو تقديم القرابين، كان على استعداد للخروج على هيمنتها وفق نوع من
التحدي الجاهل لدرجة أن يرتكب جريمة قتل أحد أقرب الناس إليه لأن القوة الأعظم، تقبلت
قربان ذاك ولم تقبل قربانه. ولهذا كانت جريمة قابيل أول تحد حقيقي يظهره المخلوق
الجديد في بداية وجوده على الأرض، وأول دليل على أن الدين إنما جاء ليبنى
المجتمعات، ويرسي قاعدة الحب والثقافة في تلك المجتمعات لتمهد السبيل لمسير
تعاليمه دون عائق يذكر.
إن الدين في الواقع
ليس أكثر من مجموعة معتقدات قلبية، وهو لا يقف عند بُعد الإيمان بوحدانية الله
وصفاته الجمالية والجلالية، والإيمان بالنبوة والمعاد فحسب، وإنما يمتد ليشمل كافة
أبعاد السلوك العملي الإنساني، الذي يتطابق مع تلك المعتقدات، لا للفرد وحده، بل
للمجموع كله، ولهذا السبب، عملت الأديان تاريخيا على قيادة قافلة البشر نحو سماء
الإنسانية لا بأسلوب القطيع، وإنما من خلال الفهم، وإشغال العقل، وأرست في تلك
المجتمعات حبها للثقافة وبحثها عن مصادرها.
الإنسان نفسه كان
مستعدا للعب هذا الدور بعد أن لمس سلامة هذا المنهج وقربه إلى تكوينه. فالدين وفق الفهم
الطبيعي، يمنح حياة الإنسان معناها واتجاهها بعيدا عن العبثية والاعتباط.
أما الثقافة التي لا
زالت حيرة تعريف معناها، تشغل بال العلماء لدرجة أنهم وضعوا أكثر من خمسمائة تعريف
لمفهومها، ولم يتفقوا إلى هذا الوقت على تعريف جامع، فهي حسب خلاصة تلك التعريفات:
منظومة شاملة للعقائد والقيم والأخلاق الآداب
والتقاليد والأعراف، فضلا عن ألوان السلوك التي تتأثر بمحتوى تلك المنظومة.
هنا يبدو التداخل في
المهام بين الدين والثقافة واضحا، فكلاهما الدين والثقافة يعملان من أجل ترجمة
إنسانية الإنسان الحقيقية، وإظهار جوهرها النقي بعيدا عن الدونية والبهيمية،
ويعطيان للإنسان دورا رئيسيا في قيادة منهج التغيير للوصول إلى الهدف، وربما لهذا
السبب بالذات، فضلا عن تداخل منهجي الدين والثقافة مع بعضهما، جاء
من اعتقد أن الدين
جزءً من الثقافة؛ لا تعصبا ودفاعا عنها، بقدر ما هو احترام لدور الدين في الحياة، باعتبار
أن الثقافة جاءت حصيلة التحولات الاجتماعية المتعاقبة، وأن الدين جاء نتيجة
التحولات التي أحدثتها الثقافة، بمعنى أن الدين صنيع الثقافة، وهو ليس أكثر من
واحدة من المؤسسات المنتمية إليها والتابعة لها.
حتى هذه المرحلة ـ
وبالرغم من اعتراضنا على نتائجها ـ يبدو الأمر منطقيا نوعا ما، هذا إذا ما تجردنا
عن كافة أنواع التحيز، وفكرنا قريبا من الحياد، وبنوع من العلمانية النزيهة وليس
الفوضوية. لكن الأدلة القاطعة التي نملكها، تجعلنا نقف معترضين بشدة على ما أنتجه
هذا الفهم من آراء فيها انتقاص للدين، ولاسيما تلك الآراء التي تذهب إلى أن البشرية
بعد أن تثقفت، قامت بنفسها بصناعة وصياغة الدين أملا بالحصول على حياة أفضل، وأكثر
هدوءاً، وأملا في أن تحظى بفرصة لتأمين احتياجاتها التي تعجز الموارد الأخرى عن
تأمينها. وهذه هي المصادرة بعينها، لأنها جردت الدين من دور الهادي والموجه
للثقافة، وجعلته في خدمتها وتبعا لها، ولما كانت الثقافة بمفهومها العام نابعة إما
من رغبات المثابرين من البشر، أو صنيعةً لإرادة أصحاب السلطة والثروة والجاه، فذلك
معناه أن الدين في أصله من صنع هؤلاء دون غيرهم ولا علاقة لله به.!
فيما يتكشف من خلال
فهم الحقائق بالمنطق أن الثقافة مهما عظم شأنها وارتفعت درجتها ليست أكثر من جزء
من منظومة الدين، وهي في أعلى تجلياتها لا تعدو كونها أحد أعمدة ارتكاز الدين
المهمة. فالثقافة بلا دين تبدو نوعا من الاعتباط قابلا للتفكك والتغير ربما نحو
الأسوأ لا نحو الأحسن. كذلك سيبدو الدين بلا ثقافة نوعا من الجمود الفكري والتحجر
المعرفي الذي لا يرقى لأن يتحول إلى منهج قائد، فمن أسس القيادة الناجحة أن يتواءم
هدفها مع أهداف الجماهير التي تقودها، ومتى ما وقع التعارض بين الأهداف، تتوقف
عجلة الحراك، وتتعرض كافة المنظومات إلى خطر التوقف أو الانحراف. ولهذا لا أتحرج من
وضع تعريف للدين، يقول: الدين الثقافة، ولا أبالغ في قولي: إن الثقافة وليدة الدين.
إن هذه الرؤية يمكن
أن تفهم بشكل أوضح من خلال متابعة ظهور الأديان، فالبدء كان مع الدين، الدين جاء
قبل الثقافة، ونزل لكي يثقف الإنسان، ويخرجه من طور البهيمية إلى طور الوعي الإدراكي
الحسي السامي، وعلى مر التاريخ كان هنالك دينا واحدا، يغطي مساحة الجغرافية
المسكونة، ويلهم البشر، وينظم سلوكياتهم، ولاسيما في عصر الأديان الجماهيرية
(اليهودية والمسيحية والإسلام). لكن قبالة ذلك كانت هنالك على مر التاريخ الإنساني
المعروف؛ الذي امتلكت فيه الإنسانية وعيا معرفيا؛ عددا لا يحصى من الثقافات
المختلفة التي تخص بعضها مجموعة صغيرة من البشر أو تخص مدينة كاملة، أو شعبا كاملا
أو منطقة واسعة يسكنها شعب واحد، ولم تكن هناك ثقافة واحدة يجتمع عليها البشر كلهم
أو غالبيتهم مثلما اجتمعوا على الدين. فالدين في أصله ومضمونه ومنهجه جاء من
الخزائن السامية العليا للإرادة الإلهية؛ ليتماهى مع درجة الوعي الإنساني، جاء
بالقدر المعلوم الذي تحتاجه المرحلة،{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا
خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}، أما الثقافة فلا ولن
تملك قدرة التحكم بالقدر الذي يحتاجه كل عصر منها.
ولذا أرى أن الذين
يريدون توهين الدين دفاعا عن الثقافة واهمون جدا فهم يظلمون ويُفقرون الثقافة إذا
ما جردوها من الدين، فالدين هو الثقافة الحقيقة، والمجتمعات الإنسانية لم تصل إلى
مراتب الرقي المعرفي والأخلاقي والتنظيمي والترتيبي إلا من خلال الدين، في وقت
عجزت الثقافة فيه أن تحمي البشرية من الوصول إلى حافات الهلاك والفناء، لم تكن مدة
السبعة عشر عاما الفاصلة بين الحربين الكونيتين الأولى والثانية آخرها، بل نراها
تزداد شراسة وخطرا وشمولا كلما توسعت قاعدة الثقافة في المجتمعات وانحسر دور الدين
فيها.
وكان المفروض
بالثقافة أن تسهم في تنمية الوعي الديني حفاظا على نفسها، وأن تعترف أن الوعي
الديني هو الذي وضع أسسها وأصَّل مبانيها وأوضح مناهجها وسبلها.
أما الذين يعترضون
بحجة أن الثقافة تمكنت اليوم من قيادة مجتمعات ما إلى درجة الرقي والرفاهية
والسعادة والنعيم والأمن والاستقرار والهدوء؛ في وقت لم ينجح الدين إلا بتقديم
صورة داعش والقاعدة وحز الرقاب والتفجير والتفخيخ والمثلة والحرق والطائفية وثقافة
الكراهية والإبِعاد والمقاطعة، فنقول لهم: منذ أول دين نزل إلى الأرض وإلى يومنا
الحاضر واستمرارا إلى آخر يوم في عمر الدنيا، لم ينجح المتدين في أن يكون صورة طبق
الأصل عن الدين، فالمتدين، وكل من يتبع عقيدة سواء كانت سماوية أم وضعية لا يمكن
أن يمثلها حتى وإن نطق باسمها، بل يمثل نفسه وموروثه وما تأثر به، ولذا لا نرى
الله فيهم. أما الذين يزرعون ثقافة الكراهية فهم لم يفهموا الدين، ولا يمتون له
بصلة، وهم ليسو أكثر من نتاج المماحكات السياسية الأولى؛ التي تمكنت من إدخال
عقائدها إلى الدين لكي تنتصر به، وتشرعن قيادتها له، وتعصم نفسها. أما الدين
الحقيقي فقد انزوى تحت ضغطها الشديد وعسفها وجبروتها لكي يحافظ على البقية
الباقية، ونحن لو تمكنا من تحجيم هؤلاء، وإظهار محاسن الدين الحقيقية سوف نصبح
أكثر شعوب الكون ثقافة وتقدما.