ملاحظة: نشرت هذا
المقال يوم 24/4/ 2010 وأعدت نشره عدة مرات، وأعيد نشره اليوم لأن حال القراءة في
العراق والعالم العربي ترجع إلى الوراء وإذا استمرت بالرجوع ستصل إلى كهوف العصر
الحجري
24/04/2010
قد تكون فرصة اكتشاف
الحرف في العراق ليست من بنات الصدف وليست عملا اعتباطيا بل مغامرة رائعة جاءت
كنتيجة منطقية لما وصل إليه التحضر الإنساني في بلاد الرافدين في تلك الحقبة.. وقد
يكون تعلق العراقيين بالقراءة وبشكل فاق مثيلاته في كل دول الجوار نتيجة منطقية
لهذا السبق والتفرد. ولذا كان العالم العربي عموما ومصر تحديدا يكتبون وبيروت كانت تطبع والعراقيون كانوا يقرئون حتى قيل: إن سوق الكتاب في العراق من أنشط أسوق
المنطقة وأكثر نشاطا حتى من سوق الأغذية والأطعمة والملابس.
ومرة قابلت أحد
الأصدقاء وسألته عن سبب عدم تبديله لحذائه الممزق، فقال: ذهبت إلى السوق لشراء حذاء
جديد ولم يكن قد تبقى في جيب من مرتبي إلا ما يكفي لشراء الحذاء، فمررت كعادتي على
إحدى مكتبات بيع الكتب ووجدت رواية الجذور لأليكس هيلي مطروحة بين الكتب، وكنت
أنتظر وصولها إلى العراق، كان ثمنها يعادل ثمن الكتاب، فقررت أن اشتري الرواية وأبقى
منتعلا حذائي الممزق إلى أن أستلم المرتب الجديد!
ثم بقدرة قادر وبفعل
فاعل، انقلبت الآية ليصبح العراقيون من أكثر الناس كرها للقراءة، وبعدا عنها
ولاسيما خلال الأربعين سنة الماضية بعد أن وضع الجلادون عيونهم على الكتاب،
فأجازوا ما يلاءم خطهم، ومنعوا غيره، وبعد أن أصبح امتلاك الكتاب جريمة يعاقب
عليها القانون بالموت، وبعد أن تحول غالبية الكتاب إلى جوقة تهريج تمتدح حتى سعال
القائد الضرورة أو عطاسه ولا علاقة لها بالثقافة. ثم أنهم حملوا المثقف أحمالا ناء
بثقلها ولم يعد قادرا على أن يحمل معها مجرد كتاب صغير، وشغلوه بالهرب والتخفي في
بيوت الأقرباء والأصدقاء توقيا من حملات الجيش الشعبي والمطاردات الأمنية، وحددوا
مرتبه الشهري بما لا يزيد عن ثمن شراء رغيفين من الخبز، فأضطر تحت دافع الفاقة
للبحث عن عمل ثان وثالث لكي يسد مطالب عائلته، فأنهك وأصيب بالإعياء، ولم يعد
قادرا على القراءة.
صحيح أن الانكماش
الثقافي كان أمر فاشيا في كل منطقتنا العربية بعد سلسلة الهزائم التي مني بها
الفكر القومي والتحرري والوحدوي الذي انعكس على البحث الفكري إلا أن الأسباب لم تكن واحدة، فنحن فضلا عن ذلك
كانت لنا ظروفنا وأسبابنا المنطقية، ومع هذا سعى العرب أو القلة منهم لتعويض نقص
القراءة بمشاريع فكرية حكومية ومجتمعية، كانت محدودة التأثير والنتائج، إلا أننا
كعرب وكمسلمين كنا ولا زلنا ـ حتى بعد تبدل الأوضاع ـ نعاني من مسألة القراءة
كثيرا.
أما في العراق فبقينا
حتى بلا وجود لمشاريع لتنمية الرغبة بالقراءة لدى المواطن الذي بات حتى إذا ما قرأ
لا يدقق ولا يهتم ولا يكلف نفسه عناء الرد على ما قرأ أو مجرد إبداء الرأي فيه،
هذا إذا لم يمتدح الكاتب لمجرد أنه من خطه أو من حزبه أو تياره. ولذا تعطلت
مشاريعنا الثقافية والفكرية وأصبح طلب العلم خرافة، والقراءة ترفا لا يتماشى مع
واقع الحال والقلق النفسي والشد العصبي الذي يشكو منه المواطن باستمرار.
ومن خلال بحثي في
مسألة تعامل شعوب المنطقة مع هذا التقصير وجدت فضلا عما سبق تقصيرا كبيرا في أداء
وزارتي التربية،والتعليم العالي والبحث العلمي، يأتي من كونهما لم تسهما في تعليم
الطالب أسس القراءة الصحية، أو مجرد زرع حب القراءة في نفسه، وحتى إجباره على ذلك
كواحد من متطلبات الحصول على الشهادة التي تحولت إلى سلعة قابلة للمساومة
والمقايضة. كما وجدت أن (إسرائيل) بصفتها واحدة من دول منطقتنا سواء شئنا ذلك أم
أبيناه، اتخذت نهجا إجباريا لإجبار الطلبة على القراءة الخارجية، فقامت بتنظيم ما
يعرف بـ(قائمة القراءة الإجبارية للامتحانات) وهي قائمة تضم مجموعة من الكتب التي
تتحدث عن الكيان الصهيوني و(الهولوكوست)، وتناقش تاريخ اليهود ومنجزاتهم العلمية
في كافة الاختصاصات، صار لزاما عليهم قراءتها واستيعابها والرد على ما يرد بشأنها
من أسئلة. بل إن الكتاب أصبح من المواد المطلوبة حتى في دورات الإعداد للوفود
والمعسكرات والنشاطات الأخرى ومنها نشاط متابعة مواقع ومعسكرات الاعتقال التي
يزعمون أن المحرقة وقعت فيها حيث يتوجب على طالب الانضمام للوفد ـ وهي طبعا وفود
على نفقة الحكومة وتنظم عادة للراغبين بالانتماء للجيش ـ أن يجتاز اختبارا في بعض
الكتب التي تتحدث عن المحرقة مثل كتاب (بريمو ليفي).
المهم أن أكثر الدول
الحريصة على مسألة بقائها وصمودها، أصبحت تدعو باستمرار إلى تطبيق مبدأ قائمة
القراءة الإجبارية، وتدعو إلى تغيير المناهج التعليمية والتدريسية بشكل دوري، لأن
هناك أساليب أخرى لتعلم التاريخ والعلوم والآداب والثقافة والفكر غير تلك التي
أوقفنا نشاطاتنا عندها منذ قرون.
ومن هنا أرى أن من الأجدر
بنا ونحن نسعى أو ندعي أننا نسعى إلى التطور أن ننظم قائمة للقراءة الإجبارية يكون
لزاما على كل موظف يطالب بالترقية أن يجري اختبارا بموادها، وكل طالب يبغي التخرج
أن يمتحن بمفرداتها ومحتوياتها؟ وكل طالب وظيفة أن يمتحن فيها؟ أم أن ذلك من طابور الصعوبات التي بات حلها مستحيلا؟