ضمن مشروعنا لتشخيص الانحراف الذي وقع في أمة الإسلام، وأدى فيما بعد إلى
اختلاف الأحكام؛ الذي قاد بدوره إلى اختلاف التوجهات والرغبات، فحول أمة الإسلام
الواحدة إلى أمم يقاتل بعضها بعضا باسم الدفاع عن المذهب، وأدى إلى تحول المذاهب
إلى أديان متناحرة، كلها تدعي الانتماء للإسلام، وكلها تكاد تكون بعيدة عنه، يأتي
هذا المقال متمما لما نشرناه من قبل في هذا المضمار.
وقبل التوسع بالحديث يجب أن نعلم أن الانحراف وعد رباني، فما من أمة إلا
وانحرفت بعد موت نبيها، وقد جاء في الذكر الحكيم، قوله تعالى: {وما محمّد إلاّ
رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على
عقبيه فلن يضر الله شيئاً}(1)
وهي الآية التي تشير إلى المستقبل، لتدل على حتمية الانقلاب المرتقب، والتي ربطها
المفسرون بهزيمة المسلمين في غزوة أحد، وبذلك أفرغوها من حقيقتها الجلية، بدلالة
أن رسول
الله(صلى الله عليه وآله) حذر الأمة من وقوع الانقلاب بمجموعة من الأحاديث سميت
أحاديث الارتداد، وهي التي اخبر الأمة فيها أنها ستنحرف عن منهجه إلى درجة أن
بعضهم سيضل، ولن ينجو من هذه المشكلة إلا الندرة التي وصفها بالجمال الضالة أو همل
النعم، أي الأنعام التي لا يوجد من يرعاها، ومنها:
عن أبي هريرة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "بينما
أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: أين؟
قال: إلى النار والله, قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى,
وإذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل بيني وبينهم، فقال: هلم, قلت: أين؟ قال إلى
النار والله, قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه
يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم".(2)
وعن أبي هريرة، عن النبي: "يرد عليَّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي فيملؤن عني الحوض، فأقول: يا ربّ
أصحابي. يقول: انك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقهرى".(3)
فضلا عن ذلك هناك من كبار الصحابة من أقر بوقوع الانحراف، فالذين اشروا هذا
الانحراف ليسو قلة، ولا من عامة الناس، والكتب التي أخرجت أحاديثهم ليست عامة
الكتب بل أصحها كما يسمونها، ومن هؤلاء الصحابي الكبير أنس بن مالك، ومن هذه الكتب
صحيح البخاري الذي جاء فيه: عن
عثمان بن أبي رواد أخي عبد العزيز بن أبي رواد، قال: سمعت الزهري يقول: دخلت على
أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا
هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت.(4)
يفهم من هذا الحديث أن الصحابي أنس أنكر كل ما كان يحدث، لأنه ليس من الدين
الذي تلقاه من رسول الله وعرفه على يديه. الصلاة وحدها كانت تدل على نوع من
التواصلية ولكنها لم تكن نقية إذ ضيعت هي الأخرى كما يقول أنس!.
لكنه في حديث آخر، شمل بقوله كل ما كان يدور بما في ذلك الصلاة، ولم يقتصر
على الصلاة وحدها، وفيه عن
غيلان، عن أنس، قال: ما أعرف شيئا مما كان على عهد النبي! قيل: الصلاة، قال: أليس
ضيعتم ما ضيعتم فيها". (5) وهو حديث يبدو مضمونه شاملا لكل ما كان يحدث لا
استثناء فيه، فهو إشارة حقيقية إلى وقوع الانقلاب! ولكن المفسرين والمؤولين أغفلوه
تقريبا وأكدوا على الحديث الأول فمثلما كان هناك من حاول حرف الارتداد والانقلاب
من خلال ربطه بهزيمة الصحابة يوم غزوة أحد، كان هنا من أراد تضييع معاني أحاديث
أنس، وحرفها عن هدفها، استمرارا لتلك السياسة.
إن تعاكس الاتجاهات الفكرية والعقدية الذي كان يستوجب سوق الأدلة من أجل
الإقناع أوقع المتبارين في الخلاف وتضارب الأقوال، إذ قال العسقلاني في شرح هذا
الحديث: "قوله (وهذه الصلاة قد ضيعت) قال المهلب: والمراد بتضييعها تأخيرها
عن وقتها المستحب، لأنهم أخرجوها عن الوقت، كذا قال، وتبعه جماعة، وهو مع عدم
مطابقته للترجمة مخالف للواقع، فقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا
يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة، منها ما رواه عبد الرزاق عن ابن
جريج عن عطاء، قال: أخر الوليد الجمعة حتى أمسى، فجئت فصليت الظهر قبل أن أجلس، ثم
صليت العصر وأنا جالس إيماء؛ وهو يخطب. وإنما فعل ذلك عطاء خوفا على نفسه من القتل.
ومنها ما رواه أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة من طريق أبي بكر بن
عتبة قال: صليت إلى جنب أبي جحيفة، فمسى الحجاج بالصلاة، فقام أبو جحيفة، فصلى.
ومن طريق ابن عمر أنه كان يصلي مع الحجاج، فلما أخر الصلاة، ترك أن يشهدها معه.
ومن طريق محمد بن أبي إسماعيل، قال: كنت بمنى وصحف تقرأ للوليد، فأخروا الصلاة،
فنظرت إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان إيماء وهما قاعدان.(6)
ومحاولة ربط الارتداد بتأخير الصلاة فحسب لم تنجح لسبب بسيط وهو أن
المشرفين عليها أنفسهم تعارضوا معها، فابن حجر العسقلاني، ناقض قوله الأول، وقال:
"إطلاق أنس محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرة خاصة، وإلا فسيأتي في
هذا الكتاب أنه قدم المدينة فقال: " ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف".
والسبب فيه أنه قدم المدينة وعمر بن عبد العزيز أميرها حينئذ وكان على طريقة أهل
بيته حتى أخبره عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه بالنص على الأوقات، فكان يحافظ
بعد ذلك على عدم إخراج الصلاة عن وقتها كما تقدم بيانه في أوائل الصلاة. ومع ذلك
فكان يراعي الأمر معهم فيؤخر الظهر إلى آخر وقتها. وقد أنكر ذلك أنس أيضا كما في
حديث أبي أمامة بن سهل عنه.(7)
وهذا طبعا جاء بسبب أن البخاري حاول أن يوجه انتباههم إلى هذا المعنى دون
غيره من خلال تسميته الباب رقم 7 من كتاب الصلاة بباب تضييع الصلاة عن وقتها، وإلا
فإن الآخرين، أخرجوا الحديث بما يؤكد وجود الانقلاب والانحراف، وأن انحرافهم عن
قواعد الصلاة الصحيحة ما هو إلا مجرد جزء من منظومة الانقلاب الكبرى، حيث أخرج ابن
حنبل الحديث عن روح عن عثمان بن سعد، عن أنس فذكر نحوه، فقال أبو رافع: يا أبا
حمزة ولا الصلاة ؟ فقال له أنس: قد علمتم ما صنع الحجاج في الصلاة.(8) يؤيد ويؤكد
ذلك مجموعة أحاديث أخرى، أخرجها غير البخاري، ومنهم:
الترمذي في سننه، عن أنس أنه قال: ما أعرف شيئا مما كنا عليه على عهد النبي.
فقلت: أين الصلاة ؟ قال: أولم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم؟ وقال الترمذي: هذا
حديث حسن غريب(9)
ومنهم ابن الأثير: قال أنس: لا
أعرف شيئا مما كان على عهد رسول الله. قيل: الصلاة، قال: أليس صنعتم ما صنعتم
فيها؟(10)
ومنهم أحمد بن حنبل الذي أخرج في مسنده عن أنس أيضا أنه قال: ما أعرف شيئا
مما عهدت مع رسول الله اليوم. فقال أبو رافع: يا أبا حمزة، ولا الصلاة ؟ فقال:
أوليس قد علمت ما صنع الحجاج في الصلاة؟(11)
ومنهم البغوي في شرح السنة ، والبوصيري في مختصر الإتحاف، والطيالسي في
المسند، وجميعهم عن أنس، قال: ما أعرف فيكم اليوم شيئا كنت أعهده على عهد رسول
الله غير قولكم : لا إله إلا الله. قال: فقلت: يا أبا حمزة، الصلاة؟ قال: قد صليتَ
حين تغرب الشمس، أفكانت تلك صلاة رسول الله!.(12)
بل إن الحديث الذي أخرجه ابن حنبل، يؤكد ما ذهبنا إليه، وهو قوله: عن أم
الدرداء أنها قالت: دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: من أغضبك؟ قال: والله لا
أعرف منهم من أمر محمد شيئا إلا أنهم يصلون جميعا.(13)
وهذا يصب في معنى حديث أنس الذي أخرجه مالك بن أنس دون ذكر الصلاة، بل أشار
فيه أنس إلى النداء إليها، والحديث عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: ما أعرف
شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء للصلاة(14)
تجدر لملاحظة إلى أن مجرد محاولة صرف أنظار الناس عن شطر الحديث الأول، أي
عن وقوع الانقلاب الكلي، والتأكيد على شطره الثاني الخاص بتأخير أداء الصلاة، لا
ينفي وقوع الإحداث في الصلاة وحدها، ولا يبرئهم من التبديل، بل يؤكد وقوعه، إذ كيف
يُعقل أن يبدلوا ما أرشدهم إليه نبيهم؟ ففيه دلالة على أن الناس، أحدثوا في خصوص الصلاة ما لم يكن معروفا
في زمان النبي (صلى الله عليه وآله).
هناك ملاحظتان مهمتان جديرتان بالانتباه، الأولى:
أن الانقلاب والارتداد حدث تدريجيا، وسار بمنحى تصاعدي، كلما ابتعدوا عن
عصر البعثة، ازدادت رقعته وحجمه، وهذا يعني أنه كان موجودا منذ البداية، ولكن لم
ينجح بتشخيص وجوده سوى قلة منهم، ومع بعدهم عن عصر البعثة وتنوع أشكال الارتداد، أصبح
الانقلاب ظاهرا للعيان بشكل جلي.
الثانية: أن المخضرمين؛ الذين عاشوا في عصر البعثة، وعصر ما بعد البعثة هم
المخولون حقا بالتحدث عن الانقلاب وتشخيصه أكثر من غيرهم.
ومن هنا نجد الأعم
الأغلب من أحاديث الارتداد، رويت عن أنس بن مالك ، الذي كان من أواخر الصحابة موتا
، فهو عاش إلى سنة تسعين، أو ثلاث وتسعين من الهجرة على اختلاف الآراء ، وعمره
تجاوز المائة أو نقص عنها قليلا(15) وقد أشار إلى ذلك ابن عبد البر بقوله: "يقال
إنه آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله، وما أعلم أحدا مات بعده ممن رأى رسول
الله إلا أبا الطفيل عامر بن واثلة.(16) وعمره
الطويل هذا، أتاح له معاصرة عصر البعثة، وخلافة الأمويين، والاطلاع على ما أحدثوه
من إبدال وانقلاب، بمعنى أنه رأى من
التغيير الذي وقع ما دفعه إلى الكلام، على خلاف الصحابة الذين ماتوا قبله بسنين
طويلة، ولم تتح لهم فرصة لمعايشة الانقلاب. ومثله أم الدرداء، التي أخرج لها ابن
جنبل حديثا في السياق ذاته عن زوجها، وهي إحدى زوجات الصحابي أبو الدرداء، لم تر
النبي، ولذا عدت من التابعين، وقد عمرت طويلا، وشهدت الانقلاب والتبدل، أما زوجها
أبو الدرداء فقيل إنه مات سنة 32 للهجرة.(17)
فضلا عن ذلك نجد أن حقيقة
الانحراف والارتداد والانقلاب كانت مشخصة حتى من أكثر المذاهب تشددا كالمذهب
الحنبلي على سبيل المثال؛ الذي شرعن الارتداد كما في قول أحد علمائه الكبار وهو
الإمام نجم الدين سليمان الطوفي، الذي قال: "وارتداد الأمة جائز عقلا لا سمعا
في الأصح لعصمتها من الخطأ، والردة أعظمه".(18)
إن من نافلة القول أن
الله سبحانه دافع عن هذه الأمة المرحومة، فهيأ لها أئمة تولوا هدايتها وإرشادها،
وقيض لها على رأس كل مائة عام مجددا، عن أبي هريرة: "إن الله يبعث لهذه الأمة
على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(19) وهذا بحد ذاته أحد اكبر المؤشرات
على إمكانية وقوع الانقلاب. بل وهناك أحاديث صريحة تشير إلى أن الانقلاب سيصل في
زمن ما إلى درجة الردة والكفر كما في حديث أم المؤمنين عائشة، عن النبي (صلى الله
عليه وآله): "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى".(20)
إن الدرس المستقى من
هذا التعارض الفقهي، هو أن تمسك المذاهب بآراء السلف دون تمحيص أو امتحان، كان
وسيكون أحد أهم أسباب ضياع الأمة، وابتعادها عن الدين، وقربها من الكفر والشرك،
وهذا يؤكد أن ما ينقذ الأمة من ورطتها ليس الدفاع عن عقيدة المذهب، فعقائد المذاهب
هي التي زادت البعد بيننا، وإنما يحتاج إلى شجاعة مفرطة لتوظيف معطيات العلوم
الحديثة في محاكمة الموروث، والتخلي عن التعصب والتعنصر، والحرص على جوهر الدين
وحقيقته، والنظر إلى المسلم الآخر على أن ما بيننا وبينه مجرد خلاف فقهي ممكن أن
نجد له الحلول، ذلك وحده الذي سيحفظ أمتنا من الضياع في زمن كثر فيه أعداؤها،
وقويت شوكتهم، وتنوعت أسالبيهم، وعظمت حججهم، ووجدوا بين المسلمين من يعينهم
ويعاضدهم كرها بالمسلم الآخر وعداء لهّ.
الهوامش
(1)
آل عمران:144
(2)
صحيح البخاري
(3)
المصدر نفسه
(4)
صحيح البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب 7 تضييع
الصلاة
(5)
المصدر نفسه
(6)
فتح الباري، ابن حجر العسقلاني
(7)
المصدر نفسه
(8)
مسند أحمد بن حنبل
(9)
سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع
(10)
جامع الأصول في أحاديث الرسول، ابن الأثير
(11)
مسند أحمد بن حنبل
(12)
السنن الكبرى، البغوي، ومختصر إتحاف السادة
المهرة، البوصيري، ومسند
أبي داود مسند أحمد بن حنبل
(13) مسند أحمد بن حنبل
(14)
الموطأ، مالك بن انس
(15)
ينظر:أسد الغابة، وتهذيب الكمال، النجوم الزاهرة، تهذيب التهذيب
(16)
الاستيعاب، أبن عبد البر
(17)
سير أعلام النبلاء، الذهبي
(18)
شرح مختصر الروضة
(19)
شرح مختصر الروضة
(20)
أخرجه مسلم