مؤلف هذا الكتاب الرائع هو الأستاذ ألأمريكي من أصل فلسطيني البروفسور محمد
أبو نمر الذي يعمل أستاذا مساعدا في برنامج السلام الدولي وحل النزاع في الجامعة
الأمريكية ((American University في
العاصمة (Washington
, D C) ويعمل خبيرا في مجال صنع السلام،
ومتخصصا في مجال تحليل النزاع وإدارته. كذلك يملك أبو نمر فضلا عن التخصص
الأكاديمي خزينا معرفيا تراكميا حصل عليه من خلال الإسهام في تحليل وإدارة وحل
النزاع عن طريق إدارة ورشات العمل والتدريب منذ عام 1982 في الولايات المتحدة
الأمريكية وفلسطين وإسرائيل والأردن ومصر وتركيا وايرلندا وسيريلانكا، ثم عن طريق
المشاركة الفعلية المباشرة في تحليل وإدارة النزاع في المناطق الساخنة في الدول
الآسيوية والأفريقية ودول البلقان وجمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق، حيث أسهم
بعيدا عن الانحيازية وتأثيرات التبعية الإنثروبولوجية في التقريب بين وجهات نظر
الأطراف المتصارعة هناك.
كما أسهم في ورشات العمل التي
نظمها معهد السلام الأمريكي (منظمة مستقلة) لتحليل الأزمة العراقية وبذل جهدا
مميزا في تدريب مجموعة من العقول العراقية التي تمثل الشيعة والسنة والأكراد
والكلدان والصابئة والإيزيديين على طرق
تحليل وإدارة وحل النزاعات لكي تأخذ الأطراف العراقية على عاتقها مسؤولية حل
مشكلتها بعيدا عن التدخلات الخارجية التي من الممكن أن تتعامل مع المشكلة بطريقة
انحيازية أو انتقائية دون الالتفات إلى المصلحة الحقيقية للشعب العراقي. ويقوم
البروفسور أبو نمر حاليا بمتابعة المشكلة العراقية عن قرب وتماس مباشر لأنه يعتقد
بل يؤمن عن يقين أنه معني بها من ثلاثة وجوه. الأول كونه مسلما يعتز بإسلامه.
والثاني كونه من أصل عربي فلسطيني. والثالث كونه متخصصا في هذا المجال الحيوي
والفعال.
صدر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنكليزية عام 2003 تحت عنوان (Nonviolence and Peace
Building In Islam) وهو واحد من مجموعة كتب
متخصصة صدرت للباحث من قبل. الأول منها صدر عام 1999 تحت عنوان
(Dialogue Conflict Resolution
and Change; Arab-Jewish Encounters in Israel) وترجمته العربية (الحوار وحل النزاعات
والتغيير: مواجهات عربية يهودية في إسرائيل)
والثاني منها صدر عام 2001 تحت عنوان
Reconciliation,
Justice, and Coexistence; Theory and Practice)
)
وترجمته العربية (المصالحة والعدالة والتعايش:النظرية والتطبيق)
تولت ترجمة الكتاب الجديد إلى العربية لميس اليحيى وقام بمراجعته وتدقيقه
عماد عمر وصدر أواخر عام 2008 عن " الأهلية للنشر والتوزيع" في عمان.
تأتي أهمية الكتاب ليس من حيث الخبرة التطبيقية والمادة العلمية الدسمة
التي يحتويها فقط، بل لمجموعة دواعم أخرى منها: أن صدور الكتاب الغربي يتم غالبا
وفق سياقات عمل مؤسساتي متطورة جدا تسهم في إغناء البحث بالمستجدات لأن الباحثين
الغربيين والأمريكيين يعتمدون عادة على فريق عمل متخصص من المساعدين من مختلف
المجالات العلمية يرفدونهم بالإحصاءات والمصادر والاقتباسات والاستطلاعات
والدراسات الميدانية التي يعجز الشخص بمفرده عن الإلمام بها كلها. ولم يشذ
البروفسور أبو نمر عن هذه القاعدة المهمة حيث نجد
بين مساعديه آمال خوري، لين كنكل، باتريك نكوغيا. فضلا عن مساهمة مجموعة من
الاختصاصيين في مراجعة البحث منهم لو كريسبيرك، مايكل ناكلر، إسماعيل محي الدين،
مبارك عوض، عبد العزيز سعيد، ديفيد سموك، وجو كروفز. وأخيرا وليس آخرا مبادرة
المؤسسات العلمية والبحثية التي تتواءم مشاريعها وأطروحتها مع البحث المزمع كتابته
لتقديم المساعدة والدعم للباحث في المجالين المادي والمعنوي. وفي حالة البروفسور
أبو نمر قامت مجموعة من هذه المؤسسات بتقديم الدعم منها: عمادة كلية كليفورد للمنح الجامعية.
وكلية الخدمة الدولية وحل النزاع والسلام
الدولي في الجامعة الأمريكية. والمعهد الأمريكي للسلام. ومعهد جون بي كروك
(مؤسسة روكفيلر للدين والسلام لتقديم المنح في جامعة روتردام)
إن افتقار الباحثين العرب والمسلمين والعراقيين منهم خاصة لهذا الدعم
النوعي الرائع يجعلهم بعيدين جدا عن مسايرة التطور بشكله الصحيح لأنهم يعتمدون على
جهدهم الفردي في إكمال وطبع ونشر بحوثهم فيفوتهم الشيء الكثير. فثمة الكثير من حجم
جبل الجليد يغطس تحت الماء ولا تراه العين، وحتى العقول التي تدرك هذه الحقيقة
تعجز عادة عن رسم الشكل الحقيقي للكتلة الغاطسة أو حتى تصور ومعرفة المحتويات
والعوالق المترسبة في طبقاتها. فإذا كانت الموضوعية والعلمية الدقيقة والمباحث الإحصائية
المتميزة مفقودة في بعض بحوثنا فمرد ذلك بالتأكيد الشديد ليس لقلة مدارك باحثينا
أو تدني منزلتهم العلمية، بل لأنهم يفتقدون لهذا النوع من الدعم الممنهج بجانبيه
المعنوي والمادي الذي من الممكن أن يوفر لهم المعلومة بأقل قدر من الجهد، وأعلى
مستوى من الدعم المالي بما يغنيهم عن عناء البحث عن الممولين لمشاريعهم العلمية.
وعلى حكوماتنا ومؤسساتنا العلمية والدينية وجامعاتنا وحتى أحزابنا السياسية
الوطنية الانتباه التام لهذه الجنبة والاهتمام بها كثيرا.
يعيش من يقرأ كتاب البروفسور أبو نمر حالة فريدة من الوجدانية السامية وهو
يرى كم هو جميل أن يجد مسلما عاش طويلا في أمريكا ونشأ وتعلم في مدارسها وجامعاتها
وأسهمت طباع مجتمعها في صياغة بعض طباعه وسلوكياته وطريقة تفكيره ومع ذلك ينجح في
الحفاظ على عقيدته الدينية بهذا الشكل البديع بل ويوظفها لتكون من الروافد العلمية
اليقينية التي تدعم تخصصه العلمي بما يشعرك بالزهو وأنت ترى العلم الحديث يستنبط
منها طرقا وقوانين لحل مشاكل الكون. والأكثر من ذلك أن ينبري للدفاع عنها بواسطة
العلوم والتجارب التي يحملها !
لقد وجد البروفسور أبو نمر من خلال بحثه عن المصادر العلمية في مجال تخصصه
أن هنالك في فهرس مكتبة الكونكرس الأمريكية وهي من أشهر المكتبات العالمية أقل من
خمسة مقالات تتحدث عن (الإسلام واللاعنف)
مقابل آلاف المواد التي تتحدث عن (الإسلام والعنف) وعند ربطه بين هذه المحصلة
والنظرة الإزدرائية عن الإسلام في عيون الغرب، والانتقائية في التقارير (المطبوعة
والإلكترونية) ثم ربط نتائج ذلك بنقص البحث الأكاديمي عن النشاطات الايجابية
والسلمية والتقاليد في المجتمع الإسلامي. أدرك كم هي الحاجة ملحة لترجمة كتابه إلى
اللغة العربية ليكون أحد الإسهامات العلمية في تطوير الكفاءة التخصصية في الحوار
عند العرب.
ومع أنه أرجع خلاصة النتائج التي
خرج بها من هذا الربط الواقعي والعلمي إلى إرث التبعية الاستعمارية للدول
الإسلامية للغرب, والجهل في التباينات الثقافية, وفشل المسلمين في تبليغ رسالتهم،
والصراع العربي الإسرائيلي. إلا أنه لم يغفل حقيقة الأثر السالب لهذا التقصير
والذي رسمه (جو مونتيفيل) في مقدمته التي كتبها لدراسة عبد العزيز ساشرينا عن
التعددية والتي قال فيها: " في هذا المحيط فإن صورة الإسلام في الغرب حيث الإلمام
بالإيمان والقيم لما يزيد عن أكثر من مليار مسلم والذي لم يكن موجودا تقريبا، أصبح
مبسطا ونذير شؤم" .
ولذا أدرك هذا الرجل الطيب أن
تخصصه العلمي ممكن أن يكون من أكبر الروادع التي تقف في وجه هذه الانحيازية
المفرطة وغير العادلة، فقرر توظيفه لتسقيط هذه الأطروحات المجحفة والانتقائية عن
طريق مقارعة الحجة بالحجة، والتحدث مع الآخر بلغة العصر لإفهامه أن تلك النظريات
التي يؤمن بها والتي تصور حدود الإسلام بالدموية كما يقول " صموئيل
هنتنغتن" فيها الكثير من الخطأ والتحيزية والبعد عن الواقع، وأنها تحتاج إلى
المراجعة والتصحيح. فكان أقرب ما يكون لنهج الإسلام الحقيقي، وأبعد ما يكون عن نهج
المسلمين المتطرفين الذي لم يفهموا لحد الآن خطاب العصر ولذا تراهم يلجأون في حل
نزاعاتهم إلى زرع العبوات والتفجيرات والاغتيالات والتكذيب والتهديد، أو الانطواء
على ألذات والشعور بالدونية والحقارة والنقص. وهي الأعمال التي خلقت مصطلح
(الإسلامفوبيا) أو ما يعرف بالخوف من التطرف الإسلامي، تلك الصفة القاسية التي
أصبحت لصيقة بالإسلام كله!
لقد جاهد أبو نمر لتبكيت التنمر الراسخ في ذواتنا العربية والإسلامية،
والذي نستخدمه عادة لفض كل نزاعاتنا حتى تلك التافهة والصغيرة منها فأشعل شمعة
لتنير طريق المعرفة بدل أن ينشغل بلعن الظلام غير آبه للحفر التي تعترض الطريق!
تناول الباحث مسألة اللاعنف التي هي إحدى القيم المهمة جدا في موروث الفكر
الإسلامي، ومواريث الأديان الأخرى، وموروث الفكر العالمي المعاصر على أنها مجموعة
مواقف ومفاهيم وأفعال المقصود منها إقناع الآخر بضرورة تغيير آرائه ومفاهيمه
وأفعاله، ثم العمل على امتصاص غضبه وضرره
بالصبر، والتصميم على هزيمة الظلم بدلا عن الثأر ألعنفي، وأكد على القيم
والمباديء الإسلامية المختلفة التي تدعم صنع السلام واللاعنف ومكانتها في الدين
الإسلامي. ثم دعم ذلك بثلاث دراسات حالة مستمدة من المحيط العربي المسلم ذاكرا
أساليب حل نزاعات تقليدية في مجتمعات
عربية مسلمة، مع توضيح للتطبيق اليومي لللاعنف وصنع السلام في المحيط الاجتماعي
المسلم والعلاقة بين الأشخاص فيه، وتشخيص العوائق في تطبيق أساليب اللاعنف في
الأطر العربية المسلمة، وأخيرا التركيز على الانتفاضة الفلسطينية ( 1987 /1992)
كتوضيح للاستخدام السياسي الممكن لللاعنف في المجتمع المسلم.
وختم البروفسور أبو نمر بحثه بنقاش جاد لقضايا رئيسية في الأبحاث النظرية
والمستقبلية والمشاريع التطبيقية في صنع السلام المبنية على أساليب قومية ووجهات
نظر عالمية، والتحديات التي تواجه الباحثين المسلمين وغير المسلمين معتقدا عن سابق
خبرة أن تمييز اللاعنف وصنع السلام في الدين الإسلامي ومناقشتهما، والتقاليد
والثقافة الإسلامية يسهمان في حوار إيجابي تشتد الحاجة إليه بين الغرب والشرق بعد
أن أخذ مصطلح (الحوار) مكانه البارز بين المفاهيم الدولية كبديل متحضر ومتمدن
لمفهوم التطرف والعنف الذي تصدر الواجهة العالمية في العقود الأخيرة، فكان أحد أهم
أسباب تأزم العلاقات الدولية، وبالأخص منها تأزم العلاقة بين الإسلام من جهة
والمجتمع الدولي من جهة أخرى، مع كل ما رافق ذلك من أضرار كارثية لحقت بالمجتمع
المسلم.
إن تمكن الدولة العراقية من فرض نوع من السيطرة الأمنية بعد ست سنين من
الصراع الدامي بين الأشقاء يوجب عليها البدء بالتأسيس لمشروع الحوار الوطني بين
المذاهب والأديان والكيانات والأطراف كلها لأن هذه الانتصارات الميدانية لم تنجح
كما هو معروف بالتغلب على المبتنيات الخفية للنزوع للعنف مرة ثانية لاسيما وأن
جذور المشاكل التي طورت خلافنا إلى مستوى العنف الإفتراسي الدموي الهمجي المفرط لا
زالت متينة وراسخة في النفوس. وهذا التأسيس يحتاج إلى مقومات فكرية حديثة بعيدة عن
الموروث النمطي التقليدي تؤمن بثقافة الحوار، ويحتاج كذلك إلى دروس في آليات تحليل
النزاعات وإدارتها وحلها. وكتاب أبو نمر يعتبر أحد المصادر المهمة في هذا الباب.
لذا أرى أن المكتبة العراقية بحاجة ماسة إليه. كما أن الهيئات الحكومية والجامعات
والمؤسسات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني يجب أن تطلع عليه وتفيد من تجربة الباحث
وخبرته الغنية. وأرى أن أكثر الجهات حاجة له في هذا الوقت بالذات هي الكيانات التي
انتهجت العنف طريقا لحل النزاع تحت تأثير الموروث الجاهلي. ثم المؤسسات والمنظمات
التي تقف قبالتها والتي تسعى لإيقاف عجلة العنف الإفتراسي عند حده والاستعاضة عنه
بثقافة التعايش وقبول الآخر أيا كان مذهبه ودينه وعرقه. لاسيما وأن الباحث أبو نمر
اعتمد أساليب خاصة بعلم الإنسان ونظريات حل النزاع من خلال منهجية المزج بين (emic and etic) أو ما يعرف بـ (من داخل الثقافة ومن خارج الثقافة) لدراسة
الثقافة من خلال ديناميكية التنوع والتعقيد في السياق الثقافي الإسلامي واستخدامها
كأداة تحليلية لفهم وحل النزاع بعيدا عن النمطية التقليدية البدائية التي تعود
للعصور الإنسانية الأولى والتي لا زلنا عالقين في أجوائها ونستخدمها بكبرياء مقيتة
ساذجة وفارغة حتى في حل النزاع ألجيلي بين الابن وأبيه!