لم تكن نبوءة تلك الأقوال التي أدلى بها جيمس وولسي الذي كان قد ترأس وكالة
الاستخبارات المركزية الأمريكية للأعوام من 1993 وإلى 1995؛ بعد عشر سنين على تركه
المنصب، ولاسيما وأننا نعرف أن من يدخل ماكنة صنع القرار الأمريكي لا يخرج منها
إلا بالموت حتى وإن ترك العمل في المنصب الذي أسند إليه، بل نعرف أن كل من يترك
العمل من هؤلاء يتحول بعد حين إلى بالون اختبار تفجره القيادة العليا في اللحظة
التي تختارها وفق مخططها الشامل ليوصل الرسائل إلى المستهدفين بها، فإذا أثارت
ردود فعل غاضبة، يخرج أحد صناع القرار ليتهمه بأن ما أدلى به كان مجرد رأي شخصي أو
سوء فهم أو غيرها من الحجج والعلل، وأنها لا تمثل وجهة نظر الحكومة الأمريكية، أما
إذا تم تقبل الأمر ببرود ولم يجد من يهتم به أو يعلق عليه فإنها تأتي ببالون آخر
ليطلق في فضاء الموضوع يكون عادة أكثر جدية وحدة وتقدما من سابقه استغلالا للهدوء،
وانتظارا لرد الفعل المرتقب، وهكذا يستمر إطلاق البالونات إلى أن تنضج الفكرة،
فيطرح المشروع الحقيقي إلى العلن بناء على ما استنتجوه من ردود الأفعال.
من هنا أجد أن التصريح الذي أطلقه جيمس وولسي في عام 2006 عن سعي أمريكا
لصنع إسلام جديد يقبل به المسلمون قبل غيرهم كان أحد بالونات الاختبار المهمة، وقد
جاء بعد سلسلة التصريحات والتقارير الدولية عن مسؤولية أمريكا عن صنع داعش وقبلها
صنع وتنفيذ ما عرف باسم (الربيع العربي)، الذي هو حلقة الوصل بين ما يعرف باسم
النهضة القومية التي انتشرت بين العرب في خمسينات القرن الماضي، حيث الزعامات
المهمة الملهمة التي تم تبييض صورتها وطمس مخازيها ونشر وتضخيم حسناتها وتسليط
الإعلام الضوء على منجزها، ثم النكوص الذي بدا وكأنه نكسة كانت بدايتها نكسة عام
1967 تلك الهزيمة التي فضحت كل الشعارات القومية وأبانت زيفها، واشتد تأثيرها بعد
سيطرة البعث على الحكم في العراق ممثلا للفكر القومي ثم فشله في تحقيق الوحدة
وغزوه الكويت وحربه مع السعودية وتصعيد المواقف العدائية مع الأردن
وبين الولادة الجديدة للفكر الإسلامي الراديكالي المتطرف الذي ارتكب أبشع
الجرائم ولم يجد من يدين أعماله ولاسيما أمريكا والدول المتقدمة، بل على خلاف ذلك
وجد دعما غير محدود منهم، تحولت بموجبه السعودية من أحد أفقر بلدان المنطقة إلى
بلد ينتج أكثر من (12) مليون برميل بترول يوميا خارج جميع الاستحقاقات، ليتحول فائضها
النقدي إلى ورقة الضغط الأمريكي الأكثر قوة وتأثيرا على قرارات أعضاء أوبك وأوابك
وغيرها من الدول الإسلامية المنتجة للبترول.
إن اعتقادي هذا لا يقوم ولم يبنى على الوهم، فهناك الكثير من الدلائل على
أن ضمن ملفات الحكومة الأمريكية ملف عن صنع هذا الإسلام على أنقاض الإسلام القائم
الذي يشككون بجديته
فعلى سبيل المثال، وصف مستشار الأمن القومي مايكل فلين الإسلام بأنه: أيديولوجية
سياسية تختبئ وراء الفكرة القائلة إنه معتقد ديني.
ووصف المستشار الأقدم ستيف بانون؛ الذي كان يدير موقع برايتبارت الإخباري
القومي قبل أن يعينه ترامب في موقع بارز في حملته الانتخابية، الإسلام بأنه: أكثر أديان
العالم تطرفا. وحذر من أن المسلمين يشكلون طابورا خامسا هنا في الولايات المتحدة.
أما وزير العدل الأمريكي جيف سيشنز فكان أكثر جرأة وصراحة من خلال قوله: "هناك
أيديولوجية سامة، آمل أنها صغيرة جدا في صفوف المسلمين. لا يتفق معظم المسلمين مع
هذه الأفكار الجهادية والعنفية بالتأكيد، وينبغي علينا التوصل إلى طريقة أفضل
للتفريق بينهما".
لقد رافق هذه
التصريحات عمل ممنهج غايته تشكيك المسلمين بصحة معتقدهم الديني، من خلال زرع
الفوضى والخراب فالرئيس باراك اوباما أمر في عام 2016 وحدها بإلقاء أكثر من 26 ألف
قنبلة مدمرة على دول إسلامية منها سوريا والعراق وأفغانستان وليبيا واليمن
والصومال وباكستان، فأشعر الكثير من المسلمين أن انحراف عقيدتهم هو الذي تسبب
بخراب بيوتهم.
إن الإسلام الذي تسعى
أمريكا إلى تصنيعه ليصبح بديلا للإسلام المتداول سيكون التأشيرة المقبولة التي
تتيح للدول الإسلامية نيل رضا أمريكا، على خلاف الدول التي ستتمسك بإسلامها
التقليدي، وأنا أرى أن مرسوم منع دخول المسلمين الذي أقره الرئيس الأمريكي ترامب أنموذجا على هذا السعي، وهو
بالتأكيد لن يكون الأنموذج الأخير. أما المشروع بحد ذاته فلم يكن وليد الساعة بل
تم إعداده بشكل منظم ومرحلي في مراكز القرار الأمريكية العليا عن طريق تنفير
المسلمين من الإسلام من خلال تسليم الزعامات في العالم الإسلامي لرجال تسموا
بالإسلام ولكنهم ابعد ما يكونون عنه وعن شريعته مما احدث انكفاء لدى البسطاء
والعامة الذين اعتقدوا أن العيب والخلل في الإسلام نفسه.
السؤال المهم الذي
يطرح نفسه اليوم: ما دورنا نحن المسلمين؟ ما دور المثقفين والباحثين في الشأن
الإسلامي؟ وهل يمكنهم إصلاح ما أفسد الدهر أم أنهم سيكتفون بأساليبهم القديمة التي
لم تُجْدِي نفعا على مر التاريخ؟!