مجموع سمات الإنسان هي نتاج التجارب التي يمر
بها خلال عمره، فالتجارب هي التي تُطبِّع الإنسان وترسم له مياسم مسير العمر، وبذا
يكون لها الأثر الكبير في بناء شخصيته بما تضفيه عليها من مؤثرات قوة وخوف وفرح
وحزن وذل وكرامة، فمن مجموع جزئيات التناقضات يولد الكل بهيئته المعروفة.
وتختلف التجارب عادة تبعا لطبيعة العصر، بل
تختلف تبعا لطبيعة الجيل والسنة واليوم أيضا فهي مطواعة لها قدرة التشكل والتلون،
ومتسلطة لها قدرة التأثير العميق؛ وكأنها تعمل على خلق توازن التكوين البنائي لدي
الإنسان.
وقد شاءت طبيعة عصرنا الجاف القاسي الشحيح
المضطرب الفوضوي أن تكون من سنخه؛ جافة قاسية فوضوية محملة بأطنانٍ من الخوف
والخطر والألم والدمع والرهبة والترقب، وأطنانٍ من الخيبة والخذلان والهزائم
المتراكمة والشعور بالوحدة الغريبة والانعزال والابتعاد عن كل ما يثير الشبهات
تجنبا للقيل والقال وكثرة الاستدعاء إلى مقرات الحزب ودوائر الأمن والسؤال، بل
وإعادة الأسئلة الراسخة في عقولهم، وكان كل ذلك مشوبا بالقليل من الأمل والكثير من
التمني، وطيف من أحلام العصافير التي كانت تراود ساعات صحونا وتغيب عن مهجعنا.
ومع أني أعرضت عن تذكر الكثير من تلك التجارب،
وطويت دونها كشحا، وابعدتها عن حياتي وواقعي؛ لكي لا أعيد اجترار ساعات وجعها من جديد، فيصيبني الألم الذي تحملته خلال عيشي لها،
إلا أن إلحاح الأصدقاء ألجأني إلى تذكر واحدة منها كانت قد قادتني إلى الموت،
ومددتني على دكة الجزار في انتظار أن يشحذ سكينه ويهوي بها على شرايين قلبي، ثم
شاء الله لي أن اجتازها ولكن بالكثير من الخسائر.
هذه التجربة هي اعتقالي للمرة الثالثة من قبل
رجال الأمن الصدامي لمدة أربعة أشهر، وما مر عليَّ خلالها، وكيف أن رجال الأمن لم
يكونوا يعترفون حتى بوجود الله تعالى، ولقد سمعت أحدهم بأذني وحق الله، يقول
لمعتقل كانوا يعذبونه بالقرب مني؛ وهو يتوسل إليهم بحق الله أن يكفوا عنه: الله مجاز، وهو لا يجرؤ أن يمر من هنا وحتى لو
مر نعتقله ونعذبه معاك. ثم أتبع قوله بقهقهة طويلة لا تنم إلا عن غباء كبير.
اختصرت تلك الأشهر المعدودات بكتاب من مائة
وثلاثين صفحة وأسميته: "فصيل البراغيث"، وهم رجال الأمن الذين كانوا
يتقافزون من حولنا كالبراغيث حينما يبدأون حفلات التعذيب وبأيديهم الكيبلات التي
تصافح أديم جلدنا فتفريه وتمزقه وتنثر الدم هنا وهناك ليرسم صورة سوريالية تحكي
قصة توحش الإنسان. وحاولت بكل ما أوتيت من سعة صدر أن أُجمِّل الكثير من الأحداث
الفرعية التي كان بعضها ساعة وقوعه أمراً تأنف الحيوانات عن الاتيان بمثله
لبشاعته، وتجاوزت بعضها الآخر لأنه كان طائفيا بامتياز، ولا علاقة له بالوطنية
والاخلاص للنظام، ونسيت بعضها الآخر.
يعتبر كتابي فصيل البراغيث من كتب المذكرات والسيرة
الشخصية الجزئية التي تركز على مناسبة واحدة وتتفرع بالحديث عنها، وقد حاولت بداية
أن استغل الفرصة لألمح إلى نتف من حياتي قبل وبعد الاعتقال إلا أني وجدت ذلك توسعا
قد يخل بخصوصية الموضوع فاكتفيت بإيراد ما جادت عليَّ به ذاكرتي من أحداث ذلك الاعتقال.
يقع الكتاب بمائة واثنين وثلاثين صفحة من
الحجم الصغير، اعتنت بإخراجه وطباعته دار ليندا للنشر في سوريا، وصمم صورة الغلاف
واختار للغلاف لونه الأسود الفنان أنور رشيد.