جاء في ربيع الأبرار للزمخشري:
لما هجا محمد بن حازم محمد بن حميد الطائي، وأفرط، اتفقت على ابن حازم محنة
اختفى فيها، فوجه إليه محمد بن حميد بعشرة آلاف درهم، وعشرة أثواب، وبرذون بسرجه
ولجامه، وغلام رومي، وكتب إليه: "أكرمك الله وأبقاك، ذو الأدب تبعثه قدرته
على نعت الشيء بخلاف هيئته، ويحمله التطرف على هجاء بعض إخوانه في حال دعابته،
وليس ما شاع من هجائك لنا، يجري سوى هذا المجرى منا، وقد بلغني من خبرك ما لا
غضاضة عليك فيه مع كبر نفسك وأدبك، إلا عند العامة من الجُهّال الذين لا يكرمون
ذوي الأخطار، إلا على الأموال دون الآداب ونحن شركاء فيما ملكنا، وقد وجهت إليك ما
استفتحت به انبساطك؛ وإن قل، ليكون سببا إلى غيره"
وهذه هي الترجمة الحرفية لما أوصانا به ديننا من رد الإساءة بالإحسان، تلك
الميزة التي نسيناها وتركناها، وعملنا خلافها للأسف الشديد!
فالله سبحانه وتعالى أوصانا في أكثر من مكان من كتابه العزيز: {وسارعوا إلى
مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين . الذين ينفقون في السراء
والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} . وقال جل من
قائل: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا بالذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}. وقال: {وأحسنوا
إن الله يحب المحسنين}
وقد أوصانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر من مرة بأن: "اتق
الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالقِ الناسَ بخُلُق حَسَن".
وعن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام)، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "من
أحب السبيل إلى الله عز وجل جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم، وجرعة مصيبة تردها بصبر".
وقد تحلى بصفة كظم الغيظ جل أئمتنا حتى أن موسى بن جعفر(عليه السلام)، سمي
الكاظم أو كاظم الغيظ، إذ روي أن أحدهم كان يؤذيه حينما كان بالمدينة، وكان يسبه
إذا رآه، ويشتم عليًّا(عليه السلام)، فقال له بعض جلسائه يوما: دعنا نقتل هذا
الفاجر. فنهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم أشد الزجر، وسأل عن الرجل، فأخبروه أنه
يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب، فوجده في مزرعة، فدخل المزرعة بحماره، فصاح
به الرجل: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن
بالحمار؛ حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه، وقال له: كم غرمت في
زرعك هذا؟ فقال له: مائة دينار، قال: وكم ترجو أن تصيب فيه؟ قال: لست أعلم الغيب،
قال: إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو فيه مائتي دينار. قال: فأخرج
له صرة فيها ثلاث مائة دينار، وقال: هذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو.
قال: فقام الرجل، فقبل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه، وانصرف.
